يبدأ شاعر شيراز واديبها مشرّف الدين سعدي الشيرازي كتابه المنمق بالنثر السليس المُشرِق الديباجة، والمرصّع بآيات الشعر الفاتن البليغ المشحون بالحكم والمواعظ، بالقطعة التالية مفتخراً ببلاغته وفصاحته، وصاباً مدحه وثناءه لمن اهدى اليه هذا الكتاب سعد بن زنكي حاكم شيراز وملكها فيقول بنثر فارسي جميل، ترجمناه الى العربية:
(لقد وقع جميلُ ذكرِ السعديّ بأفواهِ الاعوامِ، وتغلغلَ
صيتهُ بآفاقِ البسيطةِ لما أبداه من بليغ الكلامِ، وذاقَ
الناسُ من حديثهِ المقطّر حلاوةَ السكّر، ورفعوا رُقَعَ
انشائه الى رتبةِ الاوراقِ الذهبيّة، ومعَ كلّ ذلك فلا يليقُ
به ان يحملَ هذا على فضلهِ وبلاغته الادبيّة...).
(... بيد ان ملك الاوانِ، وقطب دائرة الزمان، الناصر
لأهل الايمان، الأتابكَ العظيم مظفّر الدين ابا بكر سعد ابن
زنكي لما لحظه بعين عنايته، وايّده ببليغ رعايته، واظهر له
صادق ارادته، كان ذلك الاحترامُ موجباً لاقبال
جميع الانام من الخواص والعوام، ولا جرمَ فالناس على
دين ملوكهم...).
ثم ان سعدي ما يلبث وهو ما يزال يعيش اجواء مدح امير شيراز، ان يشبّه في قطعة شعرية جميلة رائعة، كلامه بالتراب، والطين الذي يبدو خسيساً لا قيمة له حتى اذا ما جاور الورد والعشب، واختلط مع الروائح العطرة الشذيّة، اكتسب القيمة، واعتزّ به الناس، يقول سعدي في هذه المقطوعة:
وبينايَ في الحمّامِ اذ وصلتْ الى
يدي طينةٌ فّواحةٌ من يَديْ حُبّي
فقلتُ: أمسكٌ أنتِ أم انتِ عنبرٌ؟
فنفحُكِ هذا قد تعشّقه قلبي
فقالت: ترابٌ لستُ شيئاً وانّما
جلستُ بظلّ الورد حيناً على العُشبِ
فصُحْبتُه اعلتْ مقامي كما ترى
وان كنتُ طيناً لاأزالُ من التُّرْبِ
ويروي لنا سعدي بعد ذلك قصة ميله الى العزوف عن الدنيا، والاقبال على الآخرة، والانشغال بالمصير بعد عمر طويل قضاه في التنقل والترحال في بلاد الله حتى استقر به المقام اخيراً في مسقط رأسه شيراز حيث حظي برعاية سعد الدين زنكي، فقضى ما تبقى من حياته من سنين في العبادة والتأليف، والزهد والموعظة والارشاد، فيطلق العنان لقريحته منشداً بعد مقدمة نثرية:
تأمْلتُ باحدى الليالي أيّامي الماضية فتأسّفتُ على
عمري الذي ذهبَ سُدىً، فثقبتُ حجر قلبي الصلد
بماسِ دمع عيني، ونظمتُ هذه الابيات بما يناسب حالي،
في كلّ آنٍ نَفَسٌ من عمري
يمرُّ والباقي ضعيفُ الأثرِ
يا مُذهِبَ الخمسين بالنومِ سدىً
ايّامُك الخمسُ قريبةُ المدى
لاتتخذْ غير الوفيّ صاحبا
وان ترَ الغدّار فاذهب جانبا
بالموت ماتفعل من خيرٍ وشَرْ
يمضي ويا طوبى لمن زانَ المَقَرْ
فاحملْ الى قبرك انوار الهدى
فليس ما ينجيك بعد الردى
فأُذُنِ القلب استمعْ نصيحتي
وامض كانسان على طريقتي
في باب سيرة الملوك واخلاقهم يورد لنا سعدي الشيرازي بنثره البليغ، وريشته الشعرية الساحرة حكايا وقصصاً معبرة عن سيرة الملوك مع رعاياهم، وما يمكن ان نستنتجه من دروس وعبر من هذا الجانب الهام من جوانب التاريخ، فيبتدئ هذا الباب بذكر الحكاية التالية:
(سمعتُ انّ ملكاً أمر بقتل اسير، ولمّا عرف ذلك
المسكين انّه هالك لا محالة اخذ يشتم الملك بلغة
غريبة، وينال منه بأقذع الالفاظ..).
ثم يعلّق سعدي على هذه الحكاية قائلا:
(وممّا هو معروف ان كل من يقطع امله من الحياة
لايبالي ان ينطق بما ينطوي عليه فؤاده،
اذا يئس الانسان طال لسانُه
كسنّور مغلوبٍ يصول على الكلبِ).
ومن بين الحكايات الطريفة المعبرة التي يرويها لنا سعدي عن احد الحكماء الذين كان الملوك يستعينون بحكمتهم، ومشورتهم، وسديد آرائهم، الحكاية التالية التي تؤكد ضرورة ان يفقد الانسان النعمة كي يعرف قدرها وقيمتها، ووجوب ان يواجه الاهوال والاخطار حتى يستلذّ بطعم الراحة والامان، فلنستمع معاً:
(حُكي عن بعض الملوك انّه ركب سفينة وبصحبته غلامٌ
لم يرَ البحر اصلاً، ولم يجرّب محنة السفينة، فاخذ يصرخ
ويئنّ وقد تهافت على نفسه وهو يرتعد من الغَرَق، وبمقدار
ما لاطفه الناس لم يستقرّ له قرارٌ، فتنغص عيشُ الملك
حيث اعيته به الحيلةُ، وصادف ان كان في تلك السفينة
حكيم، فقال للملك: اذا امرتَ فانني سأُسكته، فأجابه
الملكُ: تكون بذلك قد بلغت غاية اللطف...).
(... فأمر بان يُلقى الغلام في البحر، فتقاذفته الامواج حتى
اذا اشفى على الهلاك أمر ان يجذب من شعره الى
السفينة، فتشبّث الغلام بكلتا يديه، بسكّانها، ولمّا
احسّ انه اصبح على سطحها جلس منزوياً، واستقرّ
آمناً، فكَبُرَ عندئذ تدبير الحكيم بعين الملك، وسأله ان
يوضح له السبب...).
(فقال الحكيم موضحاً السبب، وكاشفاً عن قانون ثابت من قوانين الحياة).
يجري حكمه على جميع بني البشر:
(انّ الغلام يا سيدي لم يتجرّع قبلُ غصّة الغرق حتى
يعرف قدر السلامة في السفينة، وكذلك لايعرف احدٌ
قيمة العافية من النوائب ما لم تمرّ على رأسه المصائب،
وتُحكنه التجارب).
*******