البث المباشر

نظرة على كتاب "مخزن الاسرار" للنظامي الكنجوي

الأحد 22 سبتمبر 2019 - 10:07 بتوقيت طهران
نظرة على كتاب "مخزن الاسرار" للنظامي الكنجوي

اذاعة طهران - برنامج : عبارات و اشارات - فقرة : نظرة على كتاب "مخزن الاسرار" للنظامي الكنجوي

 

اخوتنا المستمعين الكرام! اجمل المنى، واطيب التحايا نبعثها اليكم ونحن نلتقيكم مجدداً عبر حلقة اخرى من حلقات برنامجكم الاسبوعي (عبارات واشارات). آملين ان تقضوا معنا دقائق مفيدة وممتعة عبر الكلمة الملتزمة والموعظة الحسنة.
اعزتنا المستمعين! (مخزن الاسرار) هو رائعة اخرى من روائع التراث الادبي والاخلاقي والعرفاني الذي سطرته اقلام ارباب المعرفة والادب في بلاد ايران.
وهو قمة شامخة، وذروة سامقة من قمم وذرى الادب والبلاغة، والتعاليم الاخلاقية السامية.
صاغها مؤلفة شعراً سهلاً، ممتنعاً، يقطر عذوبة وحلاوة، وتتفجر منه الصور والمعاني الشاقة العميقة بحيث ارتفعت به عن جدارة واستحقاق الى مستوى الادباء العالميين الذين اسهموا بقسط وافر في اغناء التراث الادبي والانساني لشعوب العالم.
مؤلف هذا الديوان الشعري هو الشاعر، والعارف الشهير ابو محمد الياس بن يوسف النظامي الكنجوي شاعر الغزل والعرفان في عصره دونما منازع، وبلبل مدينة (كنجة) الصدا التي تخلّد ذكرها في التاريخ بفضل اديبها، وعارفها الاشهر هذا.
وُلِدَ هذا الشاعر بين عامي 535 و540 للهجرة فيما نظم ديوانه الشعري هذا سنة خمسمائة وسبعين للهجرة حيث كان في مرحلة شبابه، وكان يبلغ من العمر ما بين ثلاثين وخمسة وثلاثين عاماً.
يُعَدُّ كتاب (مخزن الاسرار) من الكتب الاخلاقية البحتة التي تتخذ من الانسان محوراً، ومداراً لها، ففي بعض الاحيان يرتفع الشاعر بالانسان الى درجة يبُذُّ من خلالها الملائكة وسكان الملأ الاعلى، وفي احيان اخرى يهبط به من عرض العزة لينهال عليه بسياط التوبيخ والتقريع حسب الزاوية التي ينظر من خلالها الى هذا الانسان الا انه مع ذلك ينظر اليه دوماً بعين مشفقة، وقلب متحرّق.
اعزتنا المستمعين! يشتمل مخزن الاسرار على مقدمة ضمنها المؤلف حَمْدَ الله سبحانه، والثناء على النبي صلى الله عليه وآله، ثم يوجه بعد ذلك خطابه الى ملك زمانه، بعدها يبسط الحديث حول قيمة ومنزلة الكلام حيث يقول في هذا الصدد:

اعتبر الكلمة القيمة الاولى والاخيرة في الوجود

فاعرف - اذن- قدر الكلام الذي سأقوله

فنحن قلّبنا وجوه الكلام، وشددنا اعيننا اليه

ونحن نموت من اجله، وبه نحيا

ثم يُركز بعد ذلك على المرتبة السامقة، والدرجة السامية للشاعر، وضرورة ان تكون له رسالة، وان يضبطه الالتزام، الى درجة انه يرى ان الموهبة الشعرية هي ظل من ظلال النبوة.

تنظيد الكلام يكشف عن حجب الاسرار

وهو ظل من حجاب النبوة

العظمة، والكبرياء مصطفتان امام الشعراء

من امامهم، ومن خلفهم

بحيث انهم ظهروا بعد ظهور الانبياء!

ولذلك نرى نظامي الكنجوي يعتز باشعاره الى حد بعيد، ويمتنع من تقديمها الى من هم ليسوا بأهل لها، ولا يعرفون قدرها وقيمتها، والا فان حاله سيكون كحال من يستبدل اللآلئ، والمجوهرات المشرقة الساطعة في الليل، بالاحجار الرخيصة التي لا قيمة لها، وفي الحقيقة - كما يصرح بذلك نظامي- فان هذه الطائفة من الادباء هي التي هبطت بقيمة الشعر، ونزلت به الى مستوى متدنٍّ.
ويرى نظامي الكنجوي ان من الشروط المهمة التي يجب ان تتوافر في شخصية الشاعر ان يكون ملّماً بالشريعة، محيطاً بها، وهو يومصي في هذا المجال ويشدد في الوصية على ان من لا تثبت قدمه في مجال العلم بالشرع عليه ان يحذر من المبادرة الى نظم الشعر، ذلك لان صبغة الشريعة هي التي تضفي على شعر الشاعر اللون (الفلكي) على حد تعبيره.

ما لم يجعلك الشرع مشهوراً ومعروفاً

فاحذر من ان ترشح نفسك لقول الشعر

ان شعرك من شأنه ان يصل بفضل الشرع

بحيث يلقي بظلاله من فمك الى الجوزاء...

الا ان ذلك لا يكفي لوحده، بل ان على الشاعر بالاضافة الى ذلك ان لا يستسلم الى الامتناع بسهولة، وان لا يكون متساهلاً، ولا يتوقف ولو للحظة واحدة عن الحركة، والنشاط كما هو الحال الافلاك الدّوارة الدائمة الحركة والجريان، حتى ينظم من الكلام ما يناطح به السماء! حيث يقول في هذا المجال:

عليك ان لا تهدأ كما هو حال الكواكب

حتى تحصل على كلام هو سامق شامخ كالافلاك

من الافضل لك ان تتباطأ في نظم الكلام

من ان تتسرع، وتعجل في الاتيان به

اخوتنا المستمعين! وبعد هذه المقدمة يوزع الشاعر نظامي الكنجوي اشعاره على عشرين مقالة تشكل في الحقيقة اصل واساس كتابه، مخصصاً لكل مقالة موضوعاً خاصاً بها ومورداً الشواهد والامثلة لاثبات القضايا المتعلقة بهذا الموضوع.
الا انه مع ذلك غالباً ما يخرج عن الموضوع الذي حدده لنفسه وهو في اواسط مقالته، لينفلت من بين يديه سياق الكلام متطرقا الى مواضيع اخرى مكتفياً ببعض الابيات التي تنطبق على الموضوع نفسه.
ولعل السبب في هذه الظاهرة يعود الى ان كنجوي يُعَدُّ رجل تصوير، وتعبير، وتمثيل مجارياً في ذلك سنائي، وعطار، ومولوي، وسعدي، او هو شاعر بارع في سرد القصص الطويلة لا الحكايات القصيرة.
فمن المسلم به ان كل ذلك الكم الهائل من القصص والحكايات المتناسبة مع كل موضوع والتي نراها مبثوثة في روائع مثل (منطق الطير) و(اسرارنامه) و(حديقة الحقيقة) و(المثنوي) و(جولستان) و(بوستان) انما هي حصيلة اعمار برمتها، وتجارب مختلفة، ورحلات واسفار عديدة، ومعاشرة لفئات وطوائف مختلفة من الناس، والاستماع الى اساتذة الكلام وشيوخه، ومعلمي الادب، والعرفاء.
وعلى سبيل المثال فان شاعرنا نظامي الكنجوي يخصص او هكذا يبدو المقالة الثامنة لبيان خلق الانسان، فنراه يزين هذا الموضوع بكلام يبلغ الذروة من ناحية المضمون والشكلي، ويخاطب فيه كالعادة الانسان فيمدحه ويثني عليه تارة، ويعظه وينصحه تارة اخرى ويحذره من ان يخسر هذه الدرجة السامية.
وبعد ذلك يذكر لنا حكاية بائع الفواكه والثعلب يقول فيها ان بائعاً للفواكه اتخذ من ثعلب حارساً على دكانه، فحدث ذات مرة ان اراد احد اللصوص ان يسرق، فجلس امام الدكان، وتظاهر بالنوم، واخذ يتثاءب امام الثعلب، فما كان من هذا الثعلب الا ان نام متأثراً بالحركات التي قام بها اللص، فيستغل اللص الفرصة ليحقق هدفه، ويولي الفرار!
وكما اراد نظامي فقد اصبح كتابه هذا انموذجاً حذا حذوه الكثير من الشعراء بعده حتى بلغ عددهم اثنين وسبعين شاعراً من بينهم الشاعر المعروف الامير خسرو الدهلوي صاحب ديوان (مطلع الانوار)، والخواجوي الكرماني صاحب ديوان (روضة الانوار)، والشاعر العارف عبد الرحمان الجامي في منظومته (تحفة الاحرار).
هذه الدواوين الثلاثة يشتمل كل منها كما هو الحال في مخزن الاسرار على مقدمة، تتبعها عشرون مقالة، وهي منظومات تتجلى فيها الصور البلاغية، والفنية الرائعة، رغم انها في اصلها تقليد لرائعة نظامي الكنجوي.
وكما نظم الكثير من الشعراء على منوال مخزن الاسرار فقد كتبت عليه ايضاً العديد من الشروح والتعليقات من قبل القدامى والمعاصرين منهم: ابراهيم التقوي، وعبرت الدماوندي، ومحمد البلخي، ومحمد بن قوام البلخي المعروف بالبكراني، ووحيد وستجردي، وبهروز ثروتيان.
وهذا الاهتمام الواسع بديوان مخزن الاسرار ان دل على شيء فانما يدل على قيمته الفائقة، ومنزلته الادبية والبلاغية الرفيعة، والمضامين الاخلاقية السامية التي اشتمل عليها.
كل ذلك ادى الى ان ينظم هذا الكتاب الى سلسلة الروائع الخالدة التي كان لها اكبر الاثر في صياغة الفكر الانساني، واضفاء جوانب مشعة، ومشرقة عليه من خلال الاسلوب الادبي والبلاغي الرفيع، وعبر التعاليم والمبادئ الاخلاقية السامقة ذات البعد الانساني الشامل.
وهذا ما سوف يتجلى لنا عندما نستعرض على حضراتكم اخوتنا المستمعين في حلقة الاسبوع المقبل نماذج من هذا السفر الادبي والاخلاقي الخالد. فكونوا في انتظارنا، والى الملتقى.

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة