احبتنا المستمعين الاكارم، سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته واهلاً ومرحباً بكم في لقاء جديد يجمعنا معكم عبر جولة جديدة في رياض التراث المعرفي الاسلامي، الذي سطرته لنا اقلام اعلام الفكر والادب والمعرفة في ايران الاسلام.
اعزتنا المستمعين الافاضل، من بين المشاهدات والملاحظات الاخرى التي سجلها الشاعر والحكيم ناصر خسرو حول بلاد مصر والنوبة، تلك المعلومات القيمة التي يقدمها لنا حول سوق مصر.
والتي تعكس لنا بوضوح الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتجارية التيكانت سائدة آنذاك في تلك المناطق حيث يقول في هذا المجال:
(رأيت في الجانب الشمالي من مسجد القاهرة سوقاً يطلقون عليه اسم سوق القناديل لم ار مثله في بلد آخر، فقد كانت طرائف العالم كلها مجتمعة فيه، فرأيت فيه آلات يصنعونها من الذّبْلِ (اي تروس السلاحف) كالصناديق، والامشاط، ومقابض السكاكين وما الى ذلك، كما رأيت هناك نوعاً من البلور الصلب كان الاساتذة الماهرون ينحتون، وقد جيء به من المغرب... كما شاهدت فيه اسنان الفيل التي كانوا يجيؤون بها من زَنجْبَار...).
ثم يتحدث ناصر خسرو عن الطبيعة الجغرافية لبلاد النوبة، ويعبر عن تعجبه ودهشته لاجتماع المحاصيل الزراعية في سوقها من ربيعية، وصيفية، وخريفية وشتوية، بسبب تنوع واختلاف العوامل المناخية والجوية فيها.
حتى يصف اخيراً رحلة عودته من مصر متجهاً نحو بيت الله الحرام، حيث يتوفر على وصف طريف عودته، وما مرّ به من مدن صادفها في هذا الطريق مثل اسيوط واسوان.
حتى يحطّ رحاله اخيراً عند الديار المقدسة حيث مكة المكرمة، وبيت الله العتيق، فيعقد لها فصلاً كاملاً يتوفر فيه على وصفها، ويستفيض في بيان موقعها الجغرافي، وبعض من الاحداث المهمة في تاريخها، حيث يقول في هذا الصدد:
(... تقع مدينة مكة بين الجبال، وهي مدينة لا يمكن للقادم اليها من اي جانب ان يراها حتى يصل اليها، واعلى جبل فيها هو جبل ابي قبيس، ويشبه قبّة مدورة، ويقع في شرق المدينة، وعلى قمة هذا الجبل نتوء منحوت من الحجارة يقال ان ابراهيم عليه السلام هو الذي اتخذه، وتقع المدينة في هذه العرصة الواقعة بين الجبال، ويقع المسجد الحرام في وسطها حيث تحيط به المدينة بازقتها واسواقها...).
(... ولم ار في مكة اشجاراً سوى بضعة منها عند باب المسجد الحرام المتجه نحو المغرب حيث يقال له باب ابراهيم، فحول احد الآبار رأيت اشجاراً عالية، ومن المسجد الحرام باتجاه المشرق امتدت سوق كبيرة من الجنوب الى الشمال، ويرتفع جبل ابي قبيس عند بداية السوق من جانب الجنوب، وقد نحتت المدرجات على سفح الجبل، ورصفت الصخور والاحجار بحيث يستطيع الناس الوقوف عليها لينشغلوا بالدعاء...).
ومن مكة المكرمة يتجه ناصر خسرو نحو الطائف وهي - كما يصفها- قصبة تقع على الجبل، وتتمتع بجو بارد ومعتدل حتى في الصيف، حيث يصفها قائلا:
(... هي ناحية تقع على رأس الجبل، وقد كان جوّها عندما وصلنا اليها في شهر ايّار بارداً الى درجة اننا كنا نضطر الى ان نجلس تحت اشعة الشمس، وهي مدينة صغيرة يحيط بها سور منيع، وتشتمل على سوق صغيرة، وجامع، ويجري فيها ماء عذب، وتكثر فيها اشجار الرمان، والتين، ويقع قبر عبد الله بن عباس(رض) بالقرب من هذه القصبة، وقد بنى فيها خلفاء بغداد مسجداً كبيراً، يقع ذلك القبر في ركن فيه، ويوجد على الجهة اليمنى محراب ومنبر، وحول هذا المسجد بنى الناس البيوت، وسكنوا فيها...).
بعد ذلك يبسّط ناصرخسرو القول حول الاحداث التي واجهها اثناء طريق عودته من مكة متجهاً صوب البصرة، والتي كانت تصل في بعض الاحيان الى حد التعرض لمخاطر وخصوصاً في البادية التي تفصل بين العراق، وارض الحجار.
وعندما يصل الى البصرة كان التعب والارهاق قد اخذا من شاعرنا كل مأخذ، حتى تمزقت ثيابه ولم يتبق منها سوى خرق واخلاق بالية، ناهيك عن فراغ ذات يده، حتى تحوّل منظره –كما يقول هو نفسه- الى ما يشبه منظر المجانين!
وبطبيعة الحال فان اول ما فكّر فيه ناصر خسرو عندما وصل الى هذه المدينة هو ان يذهب الى حمامها، وفي هذا الحمام تحدث له قصة طريفة يرويها لنا قائلاً:
(وعندما وصلنا الى البصرة كنا اشبه حالاً بالمجانين لتمزق ثيابنا، والاعياء الشديد الذي سيطر علينا، فأردنا الذهاب الى الحمام، فقد كان الجوّ بارداً ولم نكن نرتدي ثياباً تقينا منه، فكنت انا واخي نرتدي خرقاً بالية، وقد شددنا على ظهورنا قطعاً ممزقة من القماس تقينا البرد، ففكرت ان ابيع كتاباً كان معي لكي ادفع ثمنه كلفة الدخول في الحمام...).
(ففعلت ذلك، ووضعت الدراهم امام صاحب الحمام، وعندما وقع نظره علينا ونحن على تلك الهيئة الرثة ظننا مجانين، فصرخ في وجهنا قائلاً: سوف يهرب الناس اذا رأوكم، فما كان منّا الا ان خرجنا مسرعين ونحن نشعر بالخزي والخجل، وكان الاطفال يلعبون عند باب الحمام، فظنوا اننا مجانين، فأخذوا يطاردوننا، ويقذفون علينا الحجارة، وهم يصرخون، فلذنا منهم الى جانب، واخذنا نتأمل في امر الدنيا وعجائبها!...).
واخيراً يصل ناصر خسروا بلاده ايران، فيتجه من البصرة صوب اصفهان بعد ان يمرّ في الطريق بينهما بمدن، وقصبات، وقرى كثيرة يتحدث عنها في رحلته، ويفصل القول فيما لاقاه من احداث مهمة فيه.
حتى تطأ قدماه اخيراً ارض مدينة اصفهان في الثامن من شهر صفر سنة اربع واربعين واربعمائة، بعد ان يجتاز مسافة بلغت مائة وثمانين فرسخاً، يصفها بانها مدينة تقع في سهل منبسط، وانها تتمتع بمناخ معتدل جميل، ومياه غزيرة بحيث ان الانسان اذا حفر بئراً فانه يستطيع ان يصل الى الماء بسهولة.
وقد كان لهذه المدينة - كما يذكر ناصر خسرو- سور حصين، وبوابات ضخمة، وابراج للدفاع عنها، فيما كانت تجري في داخل المدينة جداول وسواق من الماء العذب تحيط بها المباني الجميلة المرتفعة.
وفي وسط المدينة يقع المسجد الجامع تحيط به الاسواق الكثيرة، والمحلات العامرة، وكان كل سوق فيها يمتلك بوابة خاصة به، وهكذا الحال بالنسبة الى حاراتها، وازقتها.
ويستمر ناصر خسرو في مسيره متجهاً صوب مدينته، ومسقط رأسه بلخ، ويتجاز في خلال مسيرة عودته المدن والقرى الواقعة في الطريق الصحراوي بين اصفهان، وخراسان من مثل طبس، وقائن، وتون بصحرائها الملتهبة.
ويحدث في اثناء ذلك ان يفقد اخاه في الطريق، الا انه يستطيع العثور عليه اخيراً، فليتقيان مجدداً، ثم يختتم شاعرنا واديبنا ناصر خسرو رحلته بالقول:
(... وهكذا وبعد ان فقدنا الامل، ووقعنا في المهالك لمرّات عديدة، ويئسنا من الحياة، التقينا مرة اخرى، وفرحنا برؤية احدنا للآخر، وشكرنا الله سبحانه وتعالى...).
مستمعينا الاحبة، ونحن ايضاً نحمد الله جل وعلا ونشكره على توفيقه ايانا لان نستعرض هذا السفر القيم من اسفار التراث الايراني من خلال حلقات هذا البرنامج الذي يستعرض روائع التراث الايراني في جميع مجالات الفكر والمعرفة، على امل ان نقدم لحضراتكم كل ما هو ممتع ومفيد في حلقات برامجنا القادمة، نستودعكم اله وكونوا في انتظارنا. وتقبلوا تحيات اسرة البرنامج.
*******