النموذج المتقدم، يجسد كلمة او خطاباً او توصية توكأت - كما لحظنا- على عناصر صورية وايقاعية..
واذا تابعنا سائر النماذج التي توفر الامام الكاظم (عليه السلام) عليها، لحظنا (العنصر الفني) المشار اليه يتخلل هذه النماذج، ومنها: الأحاديث الفنية التي سبق ان كررنا بان المعصومين (عليهم السلام) يتوفرون عليها اكثر من اي شكل تعبير آخر، وذلك بسبب من قصرها من جانب، وكونها خلاصة المبادىء التي يستهدفون توصيلها الى الناس من جانب آخر...
ويمكننا - على سبيل المثال- ملاحظة الاحاديث الآتية:
«تعجب الجاهل من العاقل: أكثر من تعجب العاقل من الجاهل»(۲).
«فضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب»(۳).
«المؤمن مثل كفتي الميزان: كلما زيد في ايمانه زيد في بلائه»(٤).
«اذا اراد الله بالذرة شراً: انبت لها جناحين فطارت فأكلها الطير»(٥).
«زكاة الجسد: صيام النوافل»(٦).
«تفقهوا، فان الفقه مفتاح البصيرة»(۷).
«كفارة عمل السلطان: الاحسان الى الاخوان»(۸).
هذه الأحاديث وسواها، تتضمن - كما هو واضح- عناصر ايقاعية وصورية متنوعة، ... انها جميعاً تعتمد ما هو مألوف في خبرات الناس فلا تضبب في الصور، ولا التواء في الألفاظ، ولا زخرف في العبارات، بل يظل الوضوح والالفة والعمق هو الطابع لها، ففي تشبيه مثلاً: فضل العالم العابد على من لم يكن فقيهاً، بفضل الشمس على سائر الكواكب، يظل متوكئاً على ظاهرة واضحة الوضوح يخبرها اقل الناس تجربة في الحياة، فكل البشر يلاحظون تفوق ضياء الشمس على الكواكب الصغيرة، ... ولذلك عندما يوضح بأن فضل (الفقيه العابد) كالشمس، بالنسبة لتفوقه على العابد غير الفقيه: انما ينقل القارىء الى تجربة واضحة في ذهنه كل الوضوح، ولكنها عميقة كل العمق، فالعابد غير المتفقه يحمل فضلاً دون ادنى شك لانه في ممارسة (طاعة)، الا ان حجم هذا الفضل يظل (صغيراً) محدوداً، مثل ضوء الكواكب الصغيرة التي لا ترى عند سطوع الشمس عليها، كذلك: فضل العابد الفقيه، حيث ان عمله يتضخم لدرجة يضيع من خلالها فضل العابد غير الفقيه بالقياس الى العابد الفقيه، ... وحينئذ تكشف مثل هذه المقارنة التي تبدو بسيطة كل البساطة: عن مدى عمق الصورة وامتداداتها التي توضح الفروق الدقيقة بين عابد فقيه وآخر غير فقيه، بالنحو الذي اوضحناه،...
وهكذا سائر الصور من نحو (المؤمن مثل كفتي ميزان) فهذه الظاهرة يخبرها البشر جميعاً حتى من لا يملك ادنى حظ من المعرفة، ... ولكنها تتميز بعمق الصورة وبدلالاتها المكثفة،... فالشدائد التي يواجهها الانسان من الصعب أن يتقبلها، نظراً لكون الانسان - أساساً- يبحث عن تحقيق الراحة الشخصية،... فاذا قورن بكفة الميزان التي ترجح احداها، حينئذ فان الشدائد ستخف وطأتها لدى الشخصية عندما يتحسس بان ثقل الربح يتحول الى صالحه مثل كفة الميزان التي تثقل لصالحه، بحيث يطمئن الى انه (من خلال الشدائد) سوف يربح تجارياً (أي: يتحقق اشباعه) وهذا هو منتهى ما يطمح اليه الانسان، مادام - اساساً- يبحث عن تحقيق الراحة الشخصية كما قلنا...
اذن: تظل هذه الصياغات الصورية - على بساطتها- محتشدة بدلالات ضخمة، تفصح عن حقيقة - طالما كررنا الحديث عنها- الا وهي: ان المعصومين عليهم السلام، لا يعنون بالفن الا من حيث كونه (وسيلة) لهدف فكري، بحيث ان السياقات هي التي تفرض ما اذا كان الاجدر ان يتم التعبير بلغة (العلم) او التعبير بلغة (الفن)، وان التعبير الفني يظل بدوره خاضعاً لمتطلبات السياق من حيث بساطة الصورة او تكثيفها، فيما لحظنا كيف انه (عليه السلام) في حديثه مع هشام قد اتجه الى عنصر (الصورة المكثفة المتفرعة) بينا اتجه في احاديثه هنا الى (الصورة المفردة البسيطة)، ولكنه (عليه السلام) في الحالتين يتجه الى توضيح ادق واعمق واشمل المفهومات التي يستهدف توصيلها الى القارىء، بالنحو الذي لحظناه.
*******
(۲) نفس المصدر: ص ٤۳۷.
(۳) المجالس السنية: ج۲، ص ٥۳۷.
(٤) تحف العقول: ص ٤۳۲.
(٥) نفس المصدر: ص ٤۲٦.
(٦) نفس المصدر: ص ٤۲٥.
(۷) نفس المصدر: ٤۳٤.
(۸) المجالس السنية: ج۲، ص ٥۳۷.
*******