البث المباشر

فن الكلمة أو التوصية

السبت 10 يوليو 2021 - 21:27 بتوقيت طهران
فن الكلمة أو التوصية

إذاعة طهران-أدب الإمام الكاظم:

تأخذ (التوصية) - كما لحظنا- أكثر من شكل أدبي، حيث يمكن ان تشكل (حديثاً) لا يتجاوز الفقرة او الفقرتين، وقد تشكل رسالة تكتب الى احد الأشخاص وقد تشكل خطاباً يوجه الى طرف... الخ.
وهناك نوع من (التوصية) المرتبطة بـ (المقابلة) ايضاً، حيث يتجه الامام (عليه السلام) الى احد الأشخاص، ويوجه اليه خطاباً او كلمة على نحو ما لحظنا ذلك عند الامام الصادق (عليه السلام) في كلمته التي وجهها الى ابن النعمان وسواه... وتتميز مثل هذه الكلمة او التوصية، اما بوحدة الموضوع بحيث تصب في قضية خاصة، او بتنوع الموضوعات، الا ان كل قسم منها يتميز بوحدة موضوعاته الجزئية وتلتقي الموضوعات جميعاً بأجزائها عند مصب فكري متجانس...
ويعنينا من ذلك، ان نقدم نموذجاً من أدب الامام الكاظم (عليه السلام) في ميدان الكلمة او التوصية،... متمثلاً في خطابه المعروف الذي وجهه الى هشام بن الحكم.. وهذا الخطاب يخضع لوحدة الموضوع وهو (التركيبة النفسية والعقلية) للانسان، او سمات الشخصية الاسلامية. فمن الحقائق المعروفة في ميدان علم نفس الشخصية، ان هناك تصنيفات متنوعة قد توفر المعاصرون عليها بالنسبة لسمات الشخصية: عقلياً ونفسياً واجتماعياً، وهي بحوث لها أهميتها في ميدان السلوك البشري بعامة، بيد ان الامام الكاظم قدم في هذه الكلمة او الخطاب تصنيفاً ضخماً شاملاً لكل سمات الشخصية: عبادياً، عقلياً، نفسياً، اجتماعياً، يعد في مقدمة التصنيفات الاسلامية التي توفر عليها المعصومون عليهم السلام،... واهمية مثل هذا التصنيف تتمثل في كونه لا يقتصر - كما هو شأن التصنيف الارضي- علي رسم السمات النفسية المرتبطة بالحياة الدنيا، بل يتجاوز ذلك الى رسم السمات الشاملة للشخصية (وفي مقدمتها: السمات العبادية) حيث لا يفصل الاسلام بين ما هو عبادي (مثل: الايمان، الطاعة... الخ) وبين ما هو نفسي (مثل: الكآبة، وما يضادها) او ما هو عقلي (مثل: الحفظ او النسيان)، بل يجمعها في (وحدة سلوكية)‌ كما سنرى...والمهم ان هذا التصنيف للسمات يظل الى العلم اقرب منه الى الفن، الا ان الامام (عليه السلام) لم يعرض لهذا التصنيف الا في سياق (فني) هو الكلمة‌ او التوصية‌ التي تضمنت اسلوباً ادبياً مماثلاً لما لحظناه عند الامام الصادق (عليه السلام) في وصيته لابن النعمان، حيث اخضع الامام الكاظم (عليه السلام) هذه الكلمة الى (وحدة الموضوع) من جانب، ثم توشيحها بلغة الفن من جانب آخر...
ولنقرأ نموذجاً منها:
«يا هشام: اِنْ كانَ يُغنيكَ ما يَكفيكَ، فأدنى ما في الدنيا يَكفيك، وان كانَ لا يُغنيكَ ما يكفيك، فليسَ شيءٌ من الدنيا يُغنيك...
يا هشام: لا تَمنحوا الجُهَّال الحكمةَ فَتَظلِموها، ولا تَمنعوها أهلها فتَظلموهم...
يا هشام: ‌َانّ كلَ الناسِ يُبصرُ النجومَ ولكنْ لا يهتدي بها الاّ مَنْ عَرَفَ مجاريَها ومنازلَها، وكذلك أنتم تَدرسونَ الحكمةَ ولكنْ لا يهتدي بها منكم الاّ من عَمِلَ بها...
يا هشام: انّ المسيحَ قال للحواريين: «يا عَبيدَ السوءِ يَهولُكَم طولُ النخلة وتَذكرونَ شَوكَها ومؤونةَ مراقيها، وتَنسَون طيِبَ ثمرِها...».
يا هشام: انّ مَثَلَ الدنيا مَثلُ الحيّة: مَسُّها لينٌ وفي جَوفها السمٌّ القاتل...
يا هشام: مَثلَ الدنيا مَثلُ ماء البحر، كلما شَرِبَ منهُ العطشانُ ازدادَ عَطَشَاً حتى يَقتُلَه...
يا هشام: ان ضوء الجسد في عينه، فان كان البصر مضيئاً استضاء الجسد كله، وان ضوء الروح: العقل، فاذا كان العبد عاقلاً كان عالماً بربه... ان الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع... الم تعلم ان من شمخ الى السقف برأسه: شجه، ومن خفض رأسه: استظل تحته واكنه.
يا هشام: اياك ومخالطة الناس والأنس بهم الا ان تجد منهم عاقلاً ومأموناً فأنس به واهرب من سائرهم كهربك من السباع...
يا هشام: لو رأيت مسير الأجل لألهاك عن الأمل...
يا هشام: اياك والطمع... امت الطمع من المخلوقين فان الطمع مفتاح الذل... الخ»
.(۱)
الملاحظ في هذه التوصية احتشادها بعناصر الفن ايقاعياً وصورياً ولفظياً وبنائياً...
اما (ايقاعياً) فان (العبارة المقفاة) و(التوازن) بين العبارات، و(التجانس) بينها، امر يمكن ملاحظته بوضوح في كثير من العبارات المتقدمة.
وأما (صورياً) فان النص يحتشد بعناصر (التشبيه) و(الاستعارة) و(التمثيل) و(الرمز) و(الاستدلال) و(التضمين)...
أنظر الى (التشبيهات) التالية:
(أمت الطمع) (لا تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها) (استضاء الجسد كله) (الحكمة تعمر في قلب المتواضع)...
وانظر الى (التمثيلات) التالية:
(ضوء الروح: العقل) (الطمع: مفتاح الذل)... الخ.
وانظر الى (الصور الاستدلالية) الآتية:
(الزرع ينبت في السهل) ( من شمخ الى السقف برأسه: شجه).. الخ.
وانظر ايضاً الى (الصور) التي اقتبسها (عليه السلام) من نصوص أخرى مثل قوله (عليه السلام): «يا هشام: ان لقمان قال لابنه:... يا بني: ان الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله...».
ومثل قوله (عليه السلام):
«يا هشام: تمثلت الدنيا للمسيح في صورة امرأة زرقاء، فقال لها: كم تزوجت؟
فقالت: كثيراً، قال: فكل طلقك؟
قالت: لا، بل كلاً قتلت...»
.
ان امثلة هذه (الصور المقتبسة) و(الصور الابداعية)‌ تظل سمة ملحوظة في هذا النص الذي اقتطعنا جزء منه للتدليل على فن الخطاب، أو التوصية، أو الكلمة المرتجلة.
وأهمية هذه الصور تجيء من حيث كونها قد صيغت في سياق الحديث عن (العقل) وتوظيفه (عبادياً)، وحينئذ فان فاعلية الادراك، أو العقل من حيث شموله وعمقه وامتداداته التي يطالب النص بالتغلغل فيها وارتياد آفاقه المختلفة، تتطلب عنصراً صورياً يتناسب مع سعة وشمول وعمق وامتداد العقل، فحينما يشبه مثلاً: متاع الحياة الدنيا بأنه مثل ماء البحر وهو مالح، انما يتغلغل الى باطن الحقائق التي تتطلب جهداً عقلياً او ذكاء يستطيع ان يمارس عمليات تجريد، واقتناص العلاقات بين الأشياء، حتى يدرك بأن الدنيا لا تحقق اشباعاً مهما كان حجم الحاجة التي يستهدف اشباعها،... ولذلك تطلب مثل هذا المفهوم، تشبيهاً دقيقاً هو تشبيه الحاجات الدنيوية بماء البحر المالح حيث يزداد الانسان عطشاً كلما شرب منه، بصفة ان الماء المالح يتسبب في توليد العطش بدلاً من اطفاء العطش...
وهكذا سائر الصور التي تميزت بكونها (صوراً كلية تتركب من صور جزئية) وليست صوراً جزئية، لأن الصور الجزئية كالتشبيه المفرد الذي يتألف من ظاهرتين، لا تحقق الهدف الفكري الا جزئياً، بعكس الصور الكلية كالنموذج المتقدم عن (ماء البحر)، أو كالصورة التي تقول بأن الزرع ينبت في السهل، ولا ينبت في الصفا، وان الحكمة تعمر في قلب المتواضع، وان من يشمخ برأسه الى السقف شجه وان من خفض رأسه استظل تحته... فهذه الصورة الكلية المركبة من (الزرع وعلاقته بالسهل والصفا) ومن شموخ الرأس وخفضه وعلاقتهما بالاستظلال او الجرح، ثم علاقة اولئك جميعاً بالحكمة، وبالتواضع... الخ، تفسر لنا المسوغ الفني لصياغتها بهذا النحو من التركيب الصوري ومن ثم تفسر لنا سبب اللجوء الى العنصر (الفني) لتقديم هذه الحقائق المرتبطة بفاعلية (العقل)... لذلك ما ان انتهى (عليه السلام) من تقرير هذه الحقائق، حتى اتجه الى التعبير العلمي الصرف في رسمه لسمات الشخصية الاسلامية، حيث صنفها الى اكثر من سبعين سمة، من نحو:
الايمان ويقابله الكفر
الرجاء ويقابله القنوط
الحفظ ويقابله النسيان
الفهم ويقابله الغباوة
الطاعة ويقابلها المعصية
السهولة ويقابلها الصعوبة... الخ.
بيد أن الملاحظ ان الامام (عليه السلام) قد صنف هذه السمات وفق عنوان (فني) هو (جنود العقل والجهل) أي جعل العقل - وهو ما يتضمن السمات الايجابية او الصحية - جنوداً، وجعل الجهل - وهو ما يتضمن السمات السلبية او الشاذة- جنوداً تقابلها... فالعنوان نفسه هو استعارة فنية كما هو واضح، كما انه (عليه السلام) اوضح، بان السمات الايجابيه تلتقي عند مصطلح هو (الخير) مقابل السمات السلبية التي اصطلح عليها بـ (الشر)، وان الاول منهما اي الخير يعد (وزيراً للعقل) والآخر وهو الشر يعد (وزيراً للجهل)... وهذا ايضاً تعبير (استعاري) كما هو واضح... والسر في صياغة مثل هذه العناوين العلمية (بلغة الفن) - اي الاستعارة- تتمثل في كون هذه (السمات) ذات علاقة بطبيعة فاعلية (العقل) التي قلنا بأنها تتطلب التغلغل الى باطن الحقائق، وهو امر يستتبع صياغة صورية من تشبيه، او استعارة ونحوهما لتوضيح الحقائق المشار اليها... فبما ان (العقل) - وهو ممارسة‌ السلوك الذكي الذي يفضي الى تحقيق توازن الانسان واشباع حاجاته المختلفة - يفتقر الى مفردات عملية من السلوك، حينئذ فان استعارة (الجنود) تظل مناسبة لهذه المفردات، لأن (الجنود) يستعان بهم لتحقيق النصر،... وهكذا عندما يستعين الانسان بجنود خيرة، حينئذ يحقق حاجاته بالنحو المطلوب... والعكس هو الصحيح ايضاً، حيث ان استعانة‌ الشخصية بجنود من (الشر) لابد ان تفضي به الى الهزيمة...
كذلك بالنسبة‌ للاستعارة‌ الأخرى وهي ان الخير وزير للعقل، والشر وزير للجهل، بصفة ان مهمة (الوزير) هي تهيئة الامكانات التي يتحرك (الجنود) من خلالها، حيث ان (الممارسة العقلية) تتوكأ على (فعل الخير)، وهذا (الفعل) بمثابة (وزير) يتولى تحقيق وتطبيق وتجسيد (أوامر العقل)...
اذن: امكننا ملاحظة السر الفني الكامن وراء صياغة هذه الحقائق العلمية‌ المتصلة بسمات الشخصية الاسلامية، وفق (لغة الفن)، سواء أكان ذلك في صعيد التعريف بمجالات التحرك العقلي عند الانسان - كما لوحظ في القسم الاول من هذا النص الذي خاطب هشاماً- او كان في صعيد التصنيف العلمي لسمات الشخصية، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

*******


(۱) تحف العقول: ص ٤۱٤- ٤۲٥.

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة