البث المباشر

آما آن لهذا الحزن أن ينقضي؟!

الأربعاء 4 سبتمبر 2019 - 13:22 بتوقيت طهران
آما آن لهذا الحزن أن ينقضي؟!

ويتكرَّر السؤال: لماذا نصرّ على إحياء عاشوراء في كلّ عام؛ ونصرفُ في سبيلها الوقت والجهد والمال؟ أما آنَ لعاشوراء أن تستريح، وللحزن فيها أن يبرد؟

 

الجواب عن ذلك يتمحور في نقاط:

 

كيف يتحوّل الزّمن إلى مناسبة؟ ذلك عندما يتلوَّن هذا الزمن بحدثٍ أو بقيمة كبيرة ترتبط بوجودنا، برؤيتنا، بقيمنا المستمرّة معنا. عندئذٍ يستوقفنا زمان الحدث أو القيمة، ليشكّل بالنسبة إلينا فرصة للتذكّر. قال تعالى: {وذكّرْهُم بأيّام الله}، وآيات عديدة بيّنت أنّ (الذكر) و(الذكرى) و(التذكّر) هي واحدة من الغايات الكبرى التي قصّ الله لأجلها القصص وأنزل الآيات والعبَر.

 

بالتالي: ما تذكّره في المناسبة الزمانيّة، هو العبرة والقيمة والدّرس. السؤال: لأيّ هدفٍ؟

 

الجواب: هناك ثلاثة أهداف:

 

1ـ شحن الطاقة الإيمانية الوجدانية، وذلك بالتواجد والمشاركة في المناسبة الاحتفالية، فرحًا أو حزنًا، فهذا كفيل بإحساسنا بأنَّ هناك طاقة إيمانية حصلنا عليها من التعرّض لهذا الجوّ الاحتفالي.

 

2ـ تعزيز الهويّة والانتماء، وذلك عندما ترتبط المناسبة بمعتقدات الإنسان التي تشكّل هويته الدينية، أو الهوية الوطنية أو غيرها فيما يرتبط بمناسبات اعتادها النّاس، كمناسبة الاستقلال الوطني وما شابه.

 

3ـ صورة حيّة وجدانيّة للقيمة الأخلاقيّة والإنسانيّة، بما يقدّم المثال أو النموذج الحيّ لنا من قلب التاريخ.

 

لكنّ هذه الأهداف الثّلاثة يجب أن تكون مجتمعة؛ لأنّ شحن الطاقة قد يكون شيئًا آنيًّا لا يلبث أن يزول مع انصراف الإنسان عن مجال الطاقة، أو عندما ينشغل بالحياة التي فيها كثيرٌ ممّا يستهلك الطاقة. ولذلك يحتاج التزوّد بالطاقة إلى خزّان نفسي سليم، وهو الذي تساهم المناسبة في إصلاحه في كلّ عام، عبر التركيز الفكري والقيمي للقضيّة التي ترمز إليها الذكرى، ثمّ تربطه بكلّ المنظومة التي ينتمي إليها.

 

كمثال على ذلك: عندما نربط عاشوراء بالإسلام، كمنظومة تنسحب معنا إلى مفردات حياتنا اليوميّة؛ فقيمها تتعزّز يوميًّا كلّما وقف المصلّي بين يدي الله، وكلّما خشع القلب في دعاء، وكلّما بكى الإنسان على ذنوبه وتاب منها، وكلّما امتدّت يدُهُ إلى فقير أو محرومٍ يعاني في حياته لتساعده، وكلّما انطلقت نحو قضايا العدل والحقّ والإصلاح لتكون جزءًا من مشروعها.

 

بذلك تتحوَّل عاشوراء إلى محطّة وقود مميَّزة لأجل ضخ الطّاقة الإيمانية التي تعطينا دفعًا لحضور الإسلام بكلّ مفاهيمه وقيمه وخطوطه، بما ينعكس على مواقفنا واختياراتنا في الحياة.

 

أمّا الهويّة، فهي لا معنى لها إلا إذا عاشت في هذا الأفق، أي تحوَّلت إلى اتجاه نفسي وجداني فاعل، وأنتجت سلوكًا منسجمًا مع المنظومة التي تتعنون بعنوان الانتماء. فالذي يريد أن يكون حسينيّ الهويّة، لا يمكنه ذلك إذا ابتعد عن المنظومة الإسلاميّة التي تحكم العقل والقلب والحركة.

 

إزاء ذلك: ما يفرضه الإحياء للمناسبات الإسلاميّة، وعاشوراء من أهمّها، هو أن تنعكس على سلوكنا في الحياة؛ سواء الحياة الخاصّة أو العامّة؛ وما لم تنعكس على هذا السلوك، فلا يصحُّ أنْ نسمّيها إحياءً.

 

الحديث عن الصّادق (ع) يحدّد لنا المعيار الذي على أساسه يسمّى حضور المناسبات إحياءً: يقول (ع): "رحمَ اللهُ عبدًا أحيا أمرنا، قيل: كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس؛ فإنّ النّاس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا" (عيون أخبار الرضا: 1-307-69).

 

• فالاتّباع هو الغاية من الإحياء.

 

• وعلوم أهل البيت (ع) ليست شيئًا سوى الإسلام.

 

• ونسبة العلوم إليهم تقتضي تنقية التراث المنسوب إليهم.

 

• ثمّ تعليمها للنّاس يكون بإيصالها إليهم بما يشعرون معه بأنّها تعنيهم في حياتهم، وهذا لا يكون إلا بمعرفة الواقع ثمّ ربطه بمحاسن كلامِهِم.

 

على هذا الأساس، فالمعيار الذي نقيس به منسوب الإحياء، هو بمقدار ما تعزّز مواضيع عاشوراء المطروحة معرفة ما ينبغي علينا أن نعمل به في حياتنا، والحافز الإيماني لذلك العمل؛ وهذا يتطلّب أمرين:

 

• أن لا يستخفّ المسؤولون عن التثقيف في عاشوراء، وهم من الخطباء ورجال الدّين، أن لا يستخفّوا النّاس في عقولهم، أو بأن لا يدقّقوا في الأسئلة والإشكاليّات والمشاكل التي تدور في حياتهم لتكون عاشوراء فرصةً لمعالجتها.

 

• أن لا يستخفَّ النّاس أنفسُهُم بحقوقهم؛ لأنّهم عندما يصرفون الوقت والجهد والمال في سبيل الحضور في مجالس عاشوراء، فلكي يلقوا مقابل ذلك؛ بما يحصلون معه على الغذاء الروحي والفكري والوجداني. وهذا يتطلّب أن يساهم النّاس في اقتراح المواضيع، وأن يساهموا في نقد ما يقدّم إليهم، ولو بأن يقول الواحد منهم للخطيب أو لصاحب المنبر مثلًا: "موضوعك تكرار لم يضف شيئًا"، أو "هو لا يعيننا على حياتنا"، أو "لم تقدِّم لنا شيئًا عمليًّا" أو "لقد قدّمت معرفة غير ناضجة أو لم تخضع للتنقية اللازمة"... فالذي يقدّم لنا في عاشوراء هو طعامٌ معنويّ، ولا ينبغي أن يقلّ اهتمامنا بصحّتنا العقلية والروحية والوجدانية عن اهتمامنا بصحة الجسد عندما يقدّم إلينا الطّعام، فلا نأكله إذا لم يكن ناضجًا كفاية، وننقد صاحبه إذا قدّمه إلينا غير نظيف أو غير منقَّى من كلّ ما يصاحبه ممّا يضرّ بالجسد.

 

بقيت نقطة، وهي أنّ الارتباط بأهل البيت (ع) لا يكون إلا عبر ربط النّاس بما مثّله أهل البيت (ع)، وهو الإسلام بكلّه، قرآنًا وسنّة، كلماتٍ ومواقف، شريعة وأخلاقًا.. ثمّ الارتباط الفكري العميق هو الّذي يحافظ على العلاقة متّقدة الطاقة؛ فما لم يشعر إنسان العصر الحالي أنَّ أهل البيت (ع) يحلّون مشاكله أو يجيبون عن أسئلته، أو يوسّعون أفق رؤيته، أو يمدّونه بمنهجٍ ينتج على أساسه كلّ ذلك، فلن يشعر بأنّه معنيّ بهم، وسيبحث في العصر عن كثير من النّماذج التي يحسنُ أصحابها أن يسوّقوا رموزها إلى النّاس؛ وهذا ما شهدناه واقعيًّا. الخلل هنا في التسويق لأهل البيت (ع)؛ إمَّا بعزلهم عمّا يمثّلون من إسلام، وإمَّا بعدم بيان "محاسن كلامهم" للنَّاس، فرسمنا صورة للناس عنهم لا تتّصل بحياتهم، وبقي ارتباطهم بهم وجدانيًّا سطحيًّا يجعلهم أسرى الذين يمدّونهم بالطاقة الآنية كلّما فرغت، في الوقت الذي يحتاجون إلى شيء أعمق؛ يرتبط بخزّان الطاقة وتعزيز مصادرها الحياتيّة.

 

السيد جعفر فضل الله

 

* محاضرة في مجالس عاشوراء – سيدني (أستراليا) – 1441هـ /2019م

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة