نواصل حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من هو عزيز بلا ذل، يا من هو غني بلا فقر، يا من هو ملك بلا عزل).
هذه الفقرات امتدادٌ لما سبقها من النصوص التي تضمّنها احد مقاطع الدعاء، حيث يذكر الصفة الإلهية وما يضادّها من المظاهر او ما ينفي عنها المقابل. تأكيداً لوحدانيّته تعالى. ولنبدأ مع فقرة (يا من هو عزيز بلا ذل). فماذا نستلهم منها؟
من الواضح ان علماء الكلام طالما يشيرون الى الصفات الكمالية وما يضادّها ممّا يطلق عليها: الصفات الجلالية، اي التي يجلّ عنها: تأكيداً لوحدانيته تعالى وفي ضوء هذه الحقيقة يستطيع قارىء الدعاء ان يستلهم اكثر من نكتة او دلالة في هذه الصفة او تلك، ففي ميدان العبارة القائلة: (يا من هو عزيز بلاذل) نستلهم اوّلاً انّ العزة الله تعالى وحده، بدليل ان (الذلّ) وهو المقابل للعزّ لا ينسحب الا على البشر وسائر المخلوقات، لذلك فإنّ عبارة (بلا ذلّ) تعني: كماله تعالى وتفرّده بالصفة من جانب، وما يترتـّب على هذه الصفة الكمالية او الجمالية من دلالات جمّة من حيث علاقتنا بالله تعالى واعتزازنا بعزّته التي ننتمي إليها من جانب آخر، لذلك ورد ان اولياء الله تعالى يتعزّزون بعزّته، وبذلك يرتفعون في درجاتهم أو إشباع طموحاتهم العبادية الى مالا نهاية له.
بعد ذلك نواجه عبارة: (يا من هو غنيّ بلا فقر). فماذا نستلهم منها؟
طبيعياً الغنى هنا أعمّ من التصوّر المحدود لمفهوم الغنى، حيث ينصرف الذهن الى مطلق الغنى، بمعنى عدم الحاجة الى الآخر، سواء أكانت الحاجات مادّية أم معنوية والنكتة هنا تتمثـّل في العبارة النافية، أي عبارة (بلا فقر) حيث تعني: ان غناه تعالى متفـّرد بلا حدود لا يطرأ عليه فقر كطروئه بالنسبة للبشر والنكتة الأخرى بالاضافة الى سابقتها هي ان عبارة: (بلا فقر) تجعل ذهن قارئ الدعاء منصرفاً الى ان طموحات الداعي لا تتلكأ أو تتوقف عن الإستمرارية بقدر ما تظلّ واثقة خزائنه تعالى لا تفنى وان عطاءه غير المحدود لا ينقص من غناه: كما هو واضح.
بعد ذلك نوجه عبارة (يا من هو ملك بلا عزل). هنا قبل ان نحدثك عن هذه الصفة نذكّرك بأنّ مقطع الدعاء قد ذكر عبارة سابقة: (يا من هو ربّ بلا وزير).
اي ورد في المقطع مظهران من اسمائه تعالى هما: الربّ، والملك، وهناك اسماء اخرى مثل (إله) وان هذه الأسماء جميعاً تحوم على مفهوم الخالقية، اي: المبدع للمخلوقات، إلاّ ان صفة (المبدع) تنسحب على مظاهر متنوعة من المصطلحات التي ينبغي على قارىء الدعاء أن يعرفها مثل الفارق بين الملك وبين الربّ وبين الإله.
فقد لاحظنا (في لقاء سابق) عبارة: (يا من هو ربّ بلا وزير) في حينه قلنا: ان الربّ هنا بمعنى التربية، بينما الملك في العبارة الحاليّة التي نحدثك عنها تكون بمعنى ان الناس يفزعون اليه لانه المبرّر لشؤونهم، بينما تعني عبارة (إله) المعبود وبهذا نتبيّن دلالة فقرة: (يا من هو ملك بلا عزل) وافتراق ذلك عن عبارة: (يا من هو ربّ بلا وزير)، فالمربّي هنا لايحتاج الى من يؤازره، بينما عبارة (ملك بلا عزل) تعني: انه تعالى لا يخضع لسلطة اعلى من حيث تدبيره لامور مخلوقاته، فمعنى (بلا عزل) هو: سلطته المطلقة وهيمنته المطلقة على المخلوقات: كما هو واضح.
اخيراً يختتم مقطع الدعاء بعبارة (يا من هو موصوف بلا شبيه) وهذه العبارة الختامية هي تتويج للعبارات السابقة، فمادام الله تعالى: احداً بلا ضدّ، وفرداً بلا ندّ، وصمداً بلا عيب، ووتراً بلا كيف، وقاضياً بلا حيف، وربّا بلا وزير، وعزيزاً بلا ذلّ، وغنيّاً بلا فقر وملكاً بلا عزل فلابدّ ان يكون موصوفاً بغير شبيه، وهذا هو منتهى التعبير البلاغيّ الفائق.
*******