نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الان عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من اعزني واغناني، يا من وفقني وهداني، يا من انسني واواني، يا من اماتني واحياني). هذه الفقرات من المقطع، امتداد لعبارات سابقة، تتجانس كل عبارة بتزاوجها، اي: تتجانس كل عبارة بما يماثلها او يضادها، فمثلا نجد عبارة (يا من اماتني واحياني) يضاد كل منها الاخر ونبدا نحدثك عن العبارة الاولي وهي (يا من اعزني واغناني). فماذا نستخلص منها؟
ان كلا من (العز) و (الغني) يظل مرتبطا بما تطمح اليه الشخصية من كرامة تتناسب مع الهوية الاسلامية، فبالنسبة الي (العز)طالما تشير النصوص الشرعية الي ان الله تعالي فوض للمؤمن كل شيء الا اذلال نفسه، اي ان الله تعالي لا يسمح للمؤمن بان يذل نفسه، وقد ورد في الحديث ايضا (ما اقبح بالمؤمن ان تكون له رغبة تذله)، وهذا يعني ان الله تعالي لا يريد البتة للمؤمن بان يصبح ذليلاً: مادام انتسابه الي الله تعالي، والي الاسلام يجسد مفهوم العز: كما هو واضح وهذا فيما يتصل بالعز ولكن ماذا فيما يتصل بالغني؟
من البين ان عبارة (يا من اغناني) تعني احتمالين، احدهما: الغني بمعني عدم الفقر المادي، والاخر: الغني عما في ايدي الناس، اي: عدم الحاجة الي (الاخرين) قبالة الحاجة الي الله تعالي. هنا ثمة سؤال في غاية الاهمية وهو: ان الغني بمعنيه المتقدمين يظل متارجحا بين مفهومين، احدهما: ايجابي، والاخر سلبي، فكيف نتصورهما؟
الجواب: الغني قبالة الفقر يظل مزدوجاً من حيث ايجابيته وسلبيته، حيث نري ان النصوص الشرعية تشير الي ان الانسان اذا استغني: طغي، ومن جانب اخر نجد ان الفقر مندوب اليه، حيث ورد مايقرر بان الفقر شعار الصالحين وان الله تعالي ما بعث نبيا الا فقيراً. فكيف نوفق بين هذا المعني، وبين النصوص التي تقول بما معناه: نعوذ بالله من الفقر؟
الجواب: ايضاً من الواضح ان كل شخص يتعامل مع الغني ومع الفقر بما يتناسب وحالته الشخصية، اي ان البعض يظل (الغني)من مصلحته، والاخر: يظل الفقر من مصلحته، ولذلك فان الله تعالي يكيف لعباده مليتناسب وحالاتهم الشخصية. وهذا فيما يتصل بالغني المادي ولكن ماذا بالسبة الي ما يتصل بالغني عما في ايدي الاخرين.
الملاحظ ان النصوص الشرعية، تطالب حينا بان يستغني الشخص عن الاخرين وتقرر حيناً أخر بان الانسان لا يمكن ان يستغني عن الآخرين فكيف نوفق بين هاتين الحالتين؟
الجواب: النصوص الذاهبة الى عدم استغناء الشخص عن الاخرين، تقرر بان تكون الحاجة الي الاخر بما انه (كريم) وليس (الئيم) ولذلك ورد عن الامام الباقر ع انه نصح بان يقول الشخص: اللهم اغنني من شرار خلقك وليس مطلقا. اذن الغني عما في ايدي الناس، ينبغي ان نفسره بالغني عما في ايدي اللؤماء وليس الكرام وهذا فيما يتصل بظاهرة (الغني) في عبارة (يا من اعزني واغناني)، واما بالسبة الي (العز) فسنحدثك عنه في لقاء لاحق ان شاء الله تعالي.
*******