نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حديثناك عن مقاطع متسلسلة منه، وانتهينا الى احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من في الممات قدرته، يا من في القبور عبرته، يا من في القيامة ملكه،...).
هذه الفقرات من الدعاء تتضمن مظاهر عظمة الله تعالى في الحياة الاخرى بدءً من وفاة الانسان وانتهاء بمقره الخالد: الجنة ورضاه تعالى (جعلنا الله تعالى ممن يدخلها وينال رضاها تعالى بِغَيْرِ حِسَابٍ) او النار (اعاذنا الله تعالى منها).
والمطلوب الآن هو ملاحظة هذه الفقرات التي تتسلسل او تتدرج في تحديد مظاهره تعالى حيال ذلك، حيث يبدأ بعبارة (يا من في الممات قدرته)، ترى ماذا نستلهم من العبارة المذكورة؟
من البين ان الدار الآخرة هي الحياة الحقة المتسمة بالخلود وبمجاورته تعالى والمعصومين عليهم السلام، اما الدنيا فجسر او مرحلة تمهد الحياة الخالدة، حيث يُختبر الانسان ويتحدد من خلال ممارسته العبادية مصيره الخالد.
والسؤال هو: ان انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الاخرة يبدأ مع ظاهرة (الموت)، ترى ماذا طرح الدعاء من الظاهرة المذكورة ما يرتبط بمظهر عظمته وحكمته تعالى؟ ان الله تعالى قادر بنحو مطلق، اي لا حدود لقدرته تعالى، وكذلك سائر عظمته ورحمته من العلم والارادة و... بيد أن الدعاء اوضح جانب القدرة متمثلة في الموت ونسأل ثانية: لماذا الموت دون سواه؟
ان القدرة على الاماتة تقترن بالقدرة على الاحياء: كما هو واضح وبما ان الحياة الآخرة هي الحياة الحقة كما اسلفنا عندئذ فان قدرته تعالى على اماتة الانسان تتداعى بالذهن الى حياة تختلف عن الدنيا بكونها تتسم بالخلود لا بالمرحلة العابرة واهمية قدرته تعالى في صياغة الحياة الآخرة تعني ان العبارة الحقة هي في الحياة المذكورة، وذلك لان الدنيا دار اختبار، والآخرة دار قرار.
وهذا يعني ايضاً اننا يتعين علينا ان نستحضر الى اذهاننا وظيفتنا الدنيوية واستشلاءها لحياة الآخرة التي تتداعى بالذهن الى ان العبادة الحقة هي: ما تجسدها اولاً الحياة الاختبارية، ثم ما يخلدها هو الحياة الآخرة.
اذن قدرته تعالى تنتقل باذهاننا الى حكمته تعالى متجسدة في ممارسة العمل العبادي تبعاً لقوله تعالى «مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» بالنحو الذي اوضحناه.. والاهم من ذلك هو: ان عبارة: (يا من في الممات قدرته) تجعل قارئ الدعاء منتبهاً على وظيفته العبادية، والاستعداد لممارستها دنيوياً واخروياً.
بعد ذلك تواجهنا عبارة (يا من في القبور عبرته). ترى ماذا نستلهم منها؟
اذا كان الموت اشارة الى قدرته تعالى وتداعياتها التي اوضحناها، فان (القبور) هي التجسيد العملي لما طرح نظرياً، اي: ان الموت هو ايذان بمعرفة وظيفة الانسان وتحديد حياته دنيوياً واخرويا، ولكن (القبر) هو: العملية الحسية لمصير الانسان دنيوياً، ثم أخذ العبرة منه للتفكير بوظيفة الانسان دنيوياً واخروياً، بمعنى ان (القبر) اذا قيس ببيئة الانسان وهو حيّ يتنعم بمتاع الحياة وترفها ولذائذها، فان (القبر) هو العكس من ذلك، حيث الحفرة وضيقها، والظلام، والوحدة، والوحشة و....
طبيعياً ان القبر يتحول الى نعيم في حالة ما اذا مارس الانسان وظيفته بالنحو المطلوب، والعكس هو الصحيح: كما هو واضح.
اذن عبارة (يا من في القبور عبرته) تعني ان الانسان يأخذ العظة والعبرة من القبر حتى يدفعه ذلك الى محاسبة ذاته والتفكير بممارسته العبادية التي خلق الله تعالى الانسان من اجلها.
*******