نواصل حديثنا عن الادعية المباركة ومنها: دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، وانتهينا من ذلك الى مقطع ورد فيه: (يا من وسعت كل شيء رحمته، يا من سبقت رحمته غضبه).
هاتات العباراتان، ونعني بهما: (يا من وسعت كل شيء رحمته) و (يا من سبقت رحمته غضبه)، تعدان من العطاءات التي لا حدود لها من الله تعالى حيال عباده، انهما تتناولان (رحمة) الله تعالى، و (الرحمة) هي المقابل لـ(القدرة) الله تعالى، اي: ان (القدرة) التي تعني سيطرته تعالى على كل شيء عندما تقابلها (رحمته) التي تنسحب على كل شيء، فهذا يعني: العظمة التي لا يقوى اللسان على وصفها، ان التجارب البشرية عندما تمتلك (قدرة) نسبية، فان (الرحمة) أو (الخير) من الممكن أو الغالب ألا تقترن بها، وسبب ذلك من الوضوح بمكان، لان القدرة في تجربة البشر طالما تقترن بالقسوة وليس بالرحمة، وهو ما يجعل قارئ الدعاء متداعياً بذهنه من تجربة البشر الى ساحة الله تعالى، حيث ان (رحمته) لا تنفصل عن (قدرته)، وقدرته لا تنفصل عن رحمته، وهكذا سائر صفاته تعالى.
والآن اذا ادركنا ان (رحمته) تعالى، لا تنفصل عن مطلق عظمته، حينئذ لنا ان نقدر سعة رحمته، وهي سعة لا حدود لها بطبيعة الحال، ولذلك ورد في النص القرآني الكريم، انّ نِعَمهُ تعالى لا تُحصى تبعاً لقوله تعالى: «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا».
هنا، ينبغي ان نذكر بان (الرحمة) نمطان، أحدهما ما يتصل بالتعامل مع المؤمنين، والآخر: بالتعامل مع غيرهم، ولذلك جاءت صفة (الرحيم) للنمط الاول، وصفة (الرحمن) للنمط الثاني، لكن خارجاً عن ذلك يعنينا ان نتجه الى الدعاء، والى الفقر اللتين تقولان، ان رحمته تعالى وسعت كل شيء، وان رحمته تعالى تسبق غضبه، فماذا تعني هاتان العباراتان؟
في تصورنا ان التعقيب على هذه الظاهرة يحتاج الى كلام مفصل، وهو يتطلب لقاءاً آخر نحدثك فيه عن هذا الموضوع ان شاء الله تعالى، ولكن حسبنا الآن ان نعرض لهذا الجانب، فنقول: ان سعة رحمته تعالى تعني: ان عطاءه تعالى ينسحب على كل شيء من جانب، وانه لا حدود له من جانب آخر، اما انها ـ اي الرحمة ـ تسعه كل شيء، فحسبنا ان نشير الى ما ذكرناه قبل قليل بان رحمته تشمل حتى غير المؤمنين، وكفى بهذا تدليلاً على سعة الرحمة. واما كون الرحمة تسبق غضبه، فهذا يحتاج الى شيء من التوضيح.
مما لا ترديد فيه ان (العقاب) هو عملية ضبط لا مناص من إجرائها في المجتمعات والأمر كذلك بالنسبة الى التجربة الاسلامية ومجتمعها، حيث ان الانذار او العقاب يظل حاجزاً عن ممارسة الانحراف.
وفي ميدان العقاب الالهي فان (الغضب) هو السمة التي تعبر النصوص الشرعية عنه بالنسبة الى عقاب الله تعالى للمذنبين لكن مع ذلك، فان الله تعالى يتجلوز عن عباده، ويستر عليهم ذنوبهم، بل يبدل سيئاتهم حسنات، وهذا تعبير واضح عن سعة رحمته تعالى من جانب، وان الرحمة تسبق غضبه تعالى من جانب آخر، مما يعني ذلك: عظمة ً لا أحد بمقدوره ان يترجمها الى كلمات.
ختاماً نساله تعالى ان يشملنا دائماً برحمته، وأن تسبق رحمته غضبه (كما وصف تعالى بذلك ذاته القدسية)، وان يستر علينا ذنوبنا، وعيوبنا في الدنيا والبرزخ والآخرة، وان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******