نتابع حديثنا عن الادعية المباركة وما تتضمنه من فنون التعبير البلاغي حيث تسهم الصياغة البلاغية في تعميق معاني الدعاء واستكشاف نكاته المتنوعة، ومن جملة الادعية التي يتكثف فيها عنصر الصياغة البلاغية هو دعاء الصباح لأمير المؤمنين(ع) حيث حدثناكم في لقاء سابق عن العبارة الاستهلالية للدعاء وهي: (يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه)، وواعدناكم ان نفصل الحديث عنه، كما ذكرناكم بان هذه الفقرة من الدعاء ونعني بها الاستعارة التي تتناول اطلالة الصباح وشروقه، تتداعى بأذهاننا الى الآية القرآنية الكريمة "والصبح اذا تنفس" حيث ان الاطلالة للصباح او لليوم الجديد من العمر تنطوي على نكتة مهمة هي: الوقوف عند الظواهر الابداعية في الوجود بما تحمله من التذكير بعظمة الله تعالى ثم بما يحمله الصباح من دلالة تتصل باليوم الجديد من عمر الانسان الذي جعله الله تعالى عمراً لممارسة العمل العبادي وضرورة توظيفه في هذا الميدان.
اذن: لنتحدث عن الصورتين الاستعاريتين الصورة القرآنية الكريمة، والصورة العلوية ... ونقف عند الاولى اولاً:
لا نطيل وقوفنا عند هذه الصورة الزاخرة بجمال العبارة ودلالتها "ان الصبح هو ميلاد لليوم الجديد" ولكن الصبح كما نعرف ذلك جميعاً لا يقبل مرة واحدة باشراقته بل يبدأ مع الخيوط الرقيقة من الضوء "الخيط الابيض"، ثم تتولى الخطوط وتتكثف حتى ينتشر الضوء على الاف وساحة الوجود ... وهذه العمليةيتعذر على العبارة ان تفصح عن تفصيلاتها بقدر ما يسمح "التخيل" باستخصار جمالها ولكن ما نرمي اليه الآن هو خلع طابع "التنفس" على الصبح وملاحظة دلالته متمثلة في ان "التنفس" اساساً هو عملية منح الحياة للانسان من حيث محتواها، ومن حيث شكلها حركة تتسم بالبطء وبالرشابة. من هنا فان ولادة صباح جديد تعني ولادة حياة او عمر جديد من سلسلة ايام العمر للانسان وهذا ما يكسب الصورة الاستعارية المذكورة جمالية ودهشة من حيث دلالتها، انها تذكرنا بنفس الانسان، أي بحياته المتتالية في ايامها والمقضية في النهاية الى نهاية عمر الانسان وتذكرنا من الجانب الاخر بوظيفة الانسان الواعي عبادياً فضلاً عن تذكيرنا بجمالية الصباح وجمالية الوجود وجمالية النعم التي سخرها تعالى للانسان...
والان لنرى كيف ان الامام علياً(ع) قد افاد من هذه الصورة القرآنية الكريمة، فنسج صورة للصبح على النحو الذي سنوضحه الآن ...
تقول الصورة "يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه" وها هو الامام(ع) يربط بداية بين قوله تعالى والصبح اذا تنفس بصفته ابداعاً من الله تعالى يربط بين هذا الابداع وبين مبدعه بعبارة "يا من"، ثم يبدأ الامام(ع) ليحدثنا عن هذا الابداع وهو "الصباح" لكن الامام(ع) لا يحدثنا عن حركة الصباح المتنفسة بل ينتقل الى المرحلة التي تليها وهي الاعلان او الافصاح عنها، ونحن نعرف بان الافصاح والاعلان عن الشيء يتم عادة بواسطة النطق او العبارة او اللسان الذي هو جهاز النطق ولذلك فان الامام(ع) يصوغ لنا هذه الدلالة من خلال استعارته لجهاز اللسان المفصح عن ابداع الله تعالى والناقل لنا هذا الابداع الكوني حيث قال "يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه" أي يا من اخرج اللسان المذكور بكلام منطوق هو: الضوء الذي ظهر على مجيء الصباح وهذا الضوء المنبلج "أي المشرق والبادي" هو عبارة عن نطق بعظمة الله تعالى وابداعه فكما هو نطق عن مجيء الصباح لذلك هو نطق عن بيان الابداع الكوني لله تعالى.
اذن: استعارة اللسان للصباح هي تعبير عن اظهار هذا الابداع الكوني بصفة ان الاظهار يحتاج الى كلام منطوق وهو ما تحقق بولادة الصباح الجديد من ايام الحياة اوايام عمر الانسان على نحو ما سنرى دلالة هذا الاستخلاص متوفرة في سائر عبارات الدعاء المذكور وهو ما نحدثكم عنه في لقاءات لاحقة ان شاء الله تعالى.
اخيراً: لا مناص لنا من التذكير بضرورة استثمار الدعاء، وذلك بجعله وسيلة تذكرنا يومياً بوظيفتنا في الحياة حيث ان الصباح هو ولادة يوم جديد من اعمارنا ومن ثم فأن استثمار هذ العمر من اجل ما خلقنا له من الضرورة بمكان آمن يقتادنا الى تدريب ذواتنا على مزيد من الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******