اخوتنا الأفاضل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لقد كان من تشريف الباري تبارك وتعالى أن خلع على حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله) أشرف الأوسمة السماوية وأقدسها، بل نعته بأوصاف من أوصافه جل وعلا، مبشراً بذلك الناس في خطابه عز شأنه لهم حيث قال: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم» (التوبة: ۱۲۸).
هكذا نزلت الآية فجالت حولها الأفهام، فقيل في معنى قوله تبارك وتعالى: «بالمؤمنين رؤوف رحيم»... أن الرأفة والرحمة شيء واحد، الا أن الرأفة هي شدة الرحمة، وقيل: هو (صلى الله عليه وآله) رؤوف بالمطيعين من المؤمنين، رحيم بالمذنبين منهم.
وقيل: لم يجمع الله سبحانه لأحد من الأنبياء (عليهم السلام) بين اسمين من أسمائه الحسنى الا للنبي محمد (صلى الله عليه وآله)، فإنه قال فيه: «بالمؤمنين رؤوف رحيم»، وقال عن ذاته المقدسة: «ان الله بالناس لرؤوف رحيم» (الحج: ٦٥).
اخوتنا الأكارم.. عرف الناس جميعاً ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو ارحم الناس بالناس، حتى صار القدوة التي يقتدى بها، وبفضل رحمته وشفقته على هذه الأمة، وكثرة دعائه لها صارت تعرف بـ «الأمة المرحومة».
واتسعت رحمته فشملت جميع الكفار والمشركين، بل جميع أعدائه ومناوئيه، فدعاهم الى الهدى والتقوى والصلاح والأوبة الى الله والحق، ونيل السعادتين، وترك الذنوب والتطهر من الأرجاس، والجنوح الى مراقي الرضوان بالتوبة والاستغفار والطاعة لله جلت عظمته ورحمته... حتى جعله الله عزوجل سبباً لمنع نزول العذاب على هذه الأمة بوجوده المقدس الشريف وبما علمهم من الأوبة والاستغفار بين يدي الباري سبحانه، فقال عز من قائل: «وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون» (الأنفال: ۳۳).
«إنا اهل بيت الرحمة» هكذا طمأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس، وهكذا عرف نفسه الشريفة: أنا محمد، أنا أحمد، والحاشر والمقفي، ونبي الرحمة. وفي حديث شريف آخر قال: علمني كتابه، ورفعني في سمائه... وجعلني رسول الرحمة، ورسول التوبة.
تلك هي الرحمة الالهية التي خلقها الله جل وعلا في ذات المصطفى طبعاً شريفاً لا تكلف فيه ولا تصنع، بل كان سجية صافيةً هي احدى هبات الباري على حبيبه محمد (صلى الله عليه وآله) فخاطبه بقوله: «فبما رحمة من الله لنت لهم»، فعم خير رحمته كما عمت رحمة الله عزوجل، فكان إمامها في الناس، حتى جاء ذلك التعبير على لسان حفيده الامام زين العابدين (عليه السلام) كما في صحيفته السجادية المباركة في صلواته اذ يقول: «اللهم فصل على أمينك على وحيك، ونجيبك من خلقك، وصفيك من عبادك، امام الرحمة، وقائد الخير ومفتاح البركة».
وتبلغ رحمته (صلى الله عليه وآله) مبلغاً ان يعجل في صلاة الجماعة فيتمها وهو آنس الخلق بعبادة ربه لأنه سمع طفلاً في المسجد يبكي وأمه مؤتمة في صلاتها. فقيل له في ذلك، فأجاب: أو ما سمعتم صراخ الصبي؟! ثم كان من آخر وصاياه قبيل رحيله عن هذه الدنيا الفانية ان قال لوصيه علي (عليه السلام): يا علي، اذا صليت فصل صلاة اضعف من خلفك.
ومن قبل ذلك كان أوصاه حينما بعثه الى اليمن، فكان من ذلك قوله: صل بهم صلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيماً.
اخوتنا الأعزة... كان رسول الله صلى الله عليه وآله احرص الناس على جبر القلوب وتطييب الخواطر وتوخي الموأساة وقضاء حوائج الحائرين، وذاك من شدة رحمته وطيب رأفته. وصفه امير المؤمنين (عليه السلام) يوماً فقال فيه:
من جالسه او قاومه في حاجة صابره، حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجةً لم يرده الا بها او بميسور من القول، وقد وسع الناس منه بسطه وخلقه، فكان لهم أباً.
اجل ... أقبل عليه يوماً رجل فظ سمع أنه يدعو الى نبذ الأوثان، فحمل الرجل سيفه وعزم على قتله (صلى الله عليه وآله)، فبدأ بحديث، فرأى في النبي محياً مشرقاً وابتسامةً هادئةً صافيةً، وحياءً رقيقاً، فلم يتمالك الرجل نفسه الا أن انكب على يدي رسول الله يقبلهما ودموعه تنهال على وجنتيه، فاذا هدأ قال: يا محمد، والله لقد سعيت اليك، وما على وجه الأرض أبغض إلي منك... واني لذاهب الآن عنك، وما على وجه الأرض احب الي منك.
وذاك فضالة إصطنع الطواف حول بيت الله الحرام ليغتال النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما كانمعه وجهاً لوجه سأله المصطفى وهو العالم: يا فضالة، بم كانت تحدثك نفسك؟!
قال: كانت تحدثني بذكر الله.
فقال له: بل كانت نفسك تحدثك بقتل محمد بن عبد الله!
قال فضالة: فضرب رسول الله بيده على صدري، فشعرت ببرد السكينة في قلبي، فما رفع يده عن صدري الا كان احب الناس إلي محمد بن عبد الله.
اجل .. والله تعالى هو الذي خاطبه قائلاً له: «وما ارسلناك الا رحمةً للعالمين». (الانبياء: ۱۰۷).
*******