ايها الاخوة الاعزاء الاكارم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم في هذا اللقاء الآخر معكم، حيث نعيش دقائق مع سيد الرسل (صلى الله عليه وآله) في احدى صفاته التي وصفها الله تعالى بها، اذ قال، عز من قائل يخاطبه: «انا فتحنا لك فتحاً مبيناً»، صاحب الفتح الالهي العظيم، حيث فتح الباري جل وعلا على يديه تلك الفتوح المباركة التي اشرقت في حياة الاسلام ورسالة الهداية العالمية، وفي حياة مجد المسلمين وتاريخ الانسانية اشرقت فتوحاً في العقائد السماوية، وفي الشرائع الدينية، وفي الاخلاق والجهاد مع الشرك والكفر، والظلم والفساد والضلال!
في مجمع البيان للشيخ الطبرسي، حول قوله تعالى في واقعة الاحزاب «اذ جاؤوكم من فوقكم ومن اسفل منكم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنوناً / هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً / واذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله الا غروراً».
روي عن عمرو بن عوف قال: كنت انا وسلمان وحذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن وستة من الانصار نقطع اربعين ذراعاً، فحفرنا حتى اذا بلغنا الثرى اخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة فكسرت حديدنا وشقت علينا فاتى سلمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاخبره، فهبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخندق، وأخذ المعول وضرب بها ضربة فلمعت منها برقة اضاءت ما بين لابتي المدينة، حتى لكان مصباحاً في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله تكبيرة فتح، فكبر المسلمون، ثم ضرب ضربة اخرى فلمعت برقة اخرى ثم بالمعول الثالثة فلمعت برقة اخرى.
فقال سلمان: بأبي انت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي ادى؟!
فقال:
اما الاولى: فان الله عز وجل فتح عليَّ بها اليمن.
واما الثانية: فان الله فتح عليَّ بها الشام والمغرب.
واما الثالثة: فان الله فتح علي بها المشرق فاستبشر المسلمون بذلك وقالوا: الحمد لله، موعد صادق!
وطلعت الاحزاب فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وقال المنافقون: الا تعجبون؟! يحدثكم ويعدكم الباطل، ويخبركم انه يبصر في يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وانها تفتح لكم، وانتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون ان تبرزوا!
وتم السنوات، فيتحقق ما انبأ به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، اذ تنهال الفتوح الالهية على يديه المباركتين، وتخيب وساوس المنافقين، ويبقى النبي المصطفى صاحب فتح مبين.
واما آية الفتح المبين، ايها الاخوة الاكارم فذكر في اسباب نزلها انها نزلت حول صلح الحديبيبة، فلما اقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الحديبية راجعاً، قال له رجل من اصحابه: والله ما هذا بفتح، فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: بئس الكلام هذا، بل هو اعظم الفتح، لقد رضي المشركون ان يدفعوكم بالراح عن بلادكم، ويسألوكم القضية ويرغبوا اليكم في الاياب وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد اظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا اعظم الفتح، انسيتم يوم احد اذ تصعدون ولا تلوون على احد وانا ادعوكم في اخراكم؟! انسيتم يوم الاحزاب اذ جاؤوكم من فوقكم ومن اسفل منكم، واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنوناً؟!
فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، هو اعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت اعلم بالله وبالامور منا.
فانزل الله تعالى سورة الفتح: «وانا فتحنا لك فتحاً مبيناً». ورغم تلك الفتوح الكبرى، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك العبد الخاشع الخاضع بين يدي الله جلت عظمته، يطوي الليالي بالتهجد والعبادة حتى خاطبه ربه عز وجل: «طه / ما انزلنا عليك القرآن لتشقى»، وكان (صلى الله عليه وآله)، وهو صاحب الفتح المبين، ارأف الناس بالناس واحرصهم على هداهم، يداريهم ويعاملهم بالحسنى ليأخذ بايديهم الى الهدى والصلاح ومرضاة الله وسعادة الدارين حتى خاطبه بارئه سبحانه وتعالى: «وانك لعلى خلق عظيم».
في معرض اعجابهم بالفتوحات التأريخية التي جرت على يد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، كتب المستشرقون الكثير والعجب، كان منهم مسيو ادوارد مونتيه مدير الجامعة بجنيف، حيث قال في احدى محاضراته: لقد انتشر الاسلام منذ نشأته بسرعة، وقلما توجد، بل لا توجد ابداً ديانات انتشرت بمثل هذا الانتشار مع ما صادفه الاسلام منذ اول عهده من امور صعبة عظيمة.
فيما قال الكاتب الانجليزي لويل توماس: لقد كان محمد النبي الهاشمي اول من وحد القبائل المتنافرة في تلك الجزيرة واول من الف بين قلوب شعوبها المتقاتلة، وجمع كلمتها تحت راية واحدة، جاء محمد وجمع كلمة العرب، ووحد صفوفهم، لكن لا باستعمال القوة، ولا بالاعتماد على الشدة بل بكلام عذب حكيم اخذ منهم كل مأخذ، فاتبعوه وآمنوا به وقد فاق فتى مكة جميع الرسل وقادة الرجال بصفات لم تكن معروفة لدى العرب، فجمع بين القلوب المتفرقة وجعل منها قلباً واحداً. نعم وفي ذاك يقول البوصيري:
محمد سيد الكونين، والثقلين
والفريقين، من عرب ومن عجم
فاق النبيين في خلق وفي خلق
ولم يدانوه في علم ولا كرم
فهو الذي تم معناه وصورته
ثم اصطفاه حبيباً بارئ النسم
فمبلغ العلم فيه انه بشر
وانه خير خلق الله كله
*******