الحمد لله عدد آلائه، وأشرف الصلوات علي المصطفي سيد أنبيائه، وعلي آله سادة أوليائه.
اذا كان لابدّ للنبيّ أن يرحل، فمن يكون - يا تري - وصيّه وخليفته؟
هل تبقي الأئمة من بعد نبيّها حائرةً ضائعة، أم تختار - علي اختلاف - أهوائها وأمزجتها وتعصّباتها واحداً من بينها حسب آرائها المتناقضة المتعارضة المتنازعة؟ أم يا تري أنّ الأمر أسمي من ذلك وأجلّ من أن يهمل من قبل العزيز الحكيم ويوكل إلي الناس ومشتهياتهم، حيث الوصاية أو الخلافة أو الإمامة بعد الرسول أو النبيّ، هو أمرٌ إلهيّ، واختيار ربّاني، لأنّ الإمامة - كالنبوّة - من جهة أنّها لطف سماويّ.
يكتب أهل العقائد أنّ الإنسان بطبيعته البشريّة مجبولٌ علي الاستطالة والاستيلاء والتغلّب علي الآخرين، والتكالب علي زخارف الدنيا ومتاعها، وقد وصفه الباري جلّ وعلا بقوله في محكم كتابه المجيد بهذه الآيات الشريفة: «إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى» (سورة العلق، ٦).
«إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا» (سورة المعارج، ۱۹ – ۲۱).
«وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا». (النساء، ۲۸).
وإذا كان هنالك استثناءات عن هذا الإطلاق القرآني، فإنّما خصّ بها أولياء الله وخلفاؤه، الذين خلقهم الله تعالي بعنايته الخاصّة، وأنشأهم علي عينه، ليكونوا مناراً هادياً للأمم التي هي في أشدّ الحاجة إلي من يرسم أمامها الطريق الّلاحب، ويضع بين يديها المنهج الواضح، ويوفـّر لها أسباب الهداية والرشاد، لتبلغ درجات السعادة، وتتخلّص من مزالق الضّلال والغواية والانحراف.
ولأنّ الإنسان يعسر عليه - بل ويستحيل عليه - أن يصل بنفسه إلي جميع طرق الخير والصلاح، ومعرفة الحقائق، وتمييز ما ينفعه ممّا يضرّه، لذا كان لطف الله تبارك وتعالي أن بعث في الناس رحمته من خلال رسله وأنبيائه، وأوصيائه، يتلون عليهم آياته ويزكونهم، ويعلّمونهم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وينذرونهم عمّا فيه فسادهم وعذابهم، ويبشّرونهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم.
وهذا اللطف الإلهي يشمل جميع أجيال المجتمع الإنساني بمقتضي عدل الله تبارك وتعالي، وقد نصت كثير من النصوص الشريفة - قرآناً وسنة - علي إستمرار هذا اللطف وبمرتبة أسمي في الأمة المحمدية في استمرار وجود أوصياء للنبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) الي يوم القيامة.

*******

ابرز هذه الادلة يعرفنا بها ضيف هذه الحلقة من برنامج خلفاء الله سماحة الدكتور الشيخ نبيل حلباوي استاذ جامعي وحوزوي من دمشق:
الدكتور الشيخ نبيل حلباوي: بسم الله الرحمن الرحيم، ثمة ادلة قرآنية وحديثية وعقلية تبين حقيقة استمرار الامامة الى اخر الزمان ومن هذه الادلة القرآنية قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» فهذه الاية تحصر الولاية في الله طولياً في الله عزوجل ثم في رسوله ثم في «الَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» وقد صح عند المسلمين انها نزلت في علي (عليه السلام) واذا كانت الاية تحصر الولاية اذن مقتضى هذا الحصر انه سيكون من هؤلاء الذين آمنوا وعلى رأسهم هذا الذي كان «يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» سيكونوا ائمة الى آخر الزمان لأن الحصر يعني انه لا يمكن ان لا يكون هناك ولي في زمن من الازمنة، الحديث ايضاً "اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي" وفي ذيل ذلك الحديث الا وان اللطيف الخبير انبأني انهما "لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" فكما ان كتاب الله باق الى آخر الزمان فالعترة واهل البيت باقون الى آخر الزمان، ايضاً حديث: "يكون عليكم بعدي اثنى عشر" يكون عليكم بعدي يعني لا يكون بعدي اكثر من اثني عشر اذن لابد ان يكون هذا الامام الثاني عشر اماماً الى آخر الزمان وكذلك في حديث: "لا تخلو الارض من حجة فأما ظاهراً مشتهراً او غائباً مستتراً"، كما في قول علي (عليه السلام) كذلك في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "انا وعلي ابوا هذه الامة" اذن خط النبوة وخط الامامة هما خطا تربية هذه الامة الى ان يرث الله الارض ومن عليها واما على صعيد الادلة العقلية فنحن نرى ان الحفظ النوعي لهذا الاسلام يقتضي ان يكون هناك من يقوم على هذا الامر الا وهم الائمة الى نهاية الزمان فأذا كانت النبوة حاجة الى حين وقد اختتمت النبوة بأوج الانبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فأن الامامة حاجة كل حين وبالتالي لابد ان يكون هناك امام دائماً ابداً هذه هي بعض الادلة التي تبين حقيقة استمرار الامامة وعلينا ان نقول اكثر من ذلك ان على المسلمين ان ينفتحوا على موضوع الامامة وان يتعمقوا في فهم ابعاده وما له من اهمية في تديين حتى السياسة وليس في تسييس الدين يعني كيف يمكن للدين ان يرسم كل ابعاد قيادة الامة الى ان يرث الله الارض ومن عليها، هذه القيادة الالهية هي لون من الوان تجليات الربوبية الالهية على الخلق ولايمكن لله ان يترك الناس بدون هذا التجلي الرائع والعظيم لربوبيته ونشكر الله عزوجل على هذه النعمة لذلك الله عزوجل قال في القرآن اليوم بعد ان بلغت الامامة التبليغ الاوسع في يوم الغدير: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا» صدق الله العلي العظيم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*******

إنّ لطف الله تعالي بعباده هو من كماله المطلق، إذ هو اللطيف بخلقه، وهو الجواد الكريم، وكان من لطفه بعثه النبوات والرسالات، فإذا ما انقضت اجالها شفعها بالوصايات فما من نبيّ إلّا بعده وصيّ، هكذا رأي علماء الأديان، وكذا علماء التاريخ والحضارات، وهكذا أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة الثابتة، حيث جاء فيه قوله عزّ من قائل مخاطباً رسوله الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلّم): «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» (سورة الرعد، ۷)، وفي ظلّ هذه الآية المباركة جاءت عشرات الروايات في كتب المسلمين، كمستدرك الصحيحين - للحاكم النيسابوري الشافعي، وجامع البيان - لابن جرير الطبريّ، والتفسير الكبير - للفخر الرازيّ، والدرّ المنثور - للسيوطيّ الشافعيّ، كنز العمّال - للمتّقي الهنديّ.
تروي عن ابن عبّاس وغيره، أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله) - لمّا نزلت الآية - وضع يده المباركة علي صدره وقال - وكأنّه يفسّرها صورةً واضحة -: (أنا المنذر)، ثمّ أو مأبيده الشريفة إلي منكب عليٍّ (عليه السلام) وقال يخاطبه: (أنت الهادي يا عليّ، بك يهتدي المهتدون بعدي).
نعم فالإمامة، أو الخلافة هي كالنبوّة، لطفٌ من الله عزّو جلّ، فلا بدّ أن يكون في كلّ عصرٍ وزمان إمامٌ هادٍ يخلف النبيّ في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلي خيرهم وصلاحهم وسعادتهم، وله - بالضرورة - ماللنبيّ من الولاية العامّة علي الناس، لتدبير شؤونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم، ورفع الظلم والعدوان عنهم.
وعلي هذا فالإمامة استمرارٌ للنبوّة، والدليل الذي أوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء، هو نفسه الذي يوجب أيضاً نصب الإمام بعد الرسول أو النبيّ. وقد استطاع المؤرّخ المحقـّق المسعوديّ الهذليّ (صاحب تاريخ مروج الذهب) أن يثبت ضرورة الإمامة بعد النبوّة أو الرسالة علي مدي تاريخ الأديان، من خلال عشرات الصفحات بل مئاتها في كتابه القيّم (إثبات الوصيّة)، ذاكراً فيه أدلّته القاطعة وبراهينه الواضحة علي كيفيّة اتـّصال الحجج والأوصياء من لدن آدم (عليه السلام) إلي الإمام المهديّ عجّل الله تعالي فرجه، من خلال قصص الأنبياء، وأخبار الأولياء الأوصياء صلوات الله عليهم أجمعين. وهنا يصل بنا الحديث إلي أن نقف علي حقيقةٍ دينيّةٍ مهمّة، ماثلةٍ أمام أعين جميع الباحثين، لأنّ مصاديقها العقليّة والنقليّة من الوفرة والاستحكام ما تبلغ حدّاً تكون معه أقوي وأسمي من جميع الشّبهات والمغالطات.
وتلك الحقيقة - باختصار - هي أنّ الإمامة كالنبوة أيضاً من جهة أنّها لا تكون إلّا بالتعيين الإلهيّ، لأنّها، اختيارٌ إلهيّ، وأمرٌ صريحٌ قاطع يصدر من الله جلّت عظمته، فيبلّغه النبيّ مباشرةً إلي الملأ نصّاً صريحاً واضحاً، وتعييناً بالاسم والشخص، وقد فعل ذلك رسول الله (صلي الله عليه وآله) في أعظم واقعة في الإسلام، تلك هي واقعة الغدير الكبري، والتي رواها ونقلها أكثر من خمسين مصدراً سنياً فضلاً عن عشرات المصادر الشيعية، مجمعةً علي أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) أخذ بيد عليّ (عليه السلام) في ذلك المشهد المهيب في غدير خم عند عودته من حجّة الوداع وأمام ما لا يقلّ - علي أقلّ ما ذكر في الأخبار - عن ثمانين ألف حاجّ من المسلمين، رافعاً يد عليّ بيده حتي بان بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون، ثمّ نادي بالناس: أيّها الناس، من أولي الناس بالمؤمنين من أنفسهم.
فقالوا بأجمعهم: الله ورسوله.
فنادي (صلي الله عليه وآله) بهم قائلاً: إنّ الله مولاي، وأنا مولي المؤمنين، وأنا أولي بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه، فعليّ مولاه - كرّرها ثلاث مرّات -.
ثمّ قال داعياً: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه (أي مع عليّ) حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب.
ثم قال: معاشر الناس، إن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً، وفرض طاعته علي كلّ أحد، ماضٍ حكمه، جائز قوله، ملعونٌ من خالفه، مرحومٌ من صدّقه. إسمعوا وأطيعوا، فإنّ الله مولاكم، وعليٌّ إمامكم، ثمّ الإمامةُ في ولدي من صلبه إلي يوم القيامة.
إلي آخر خطبته المباركة (صلي الله عليه وآله)، ثمّ أمر المسلمين ببيعة عليّ بإمرة المؤمنين، فبايعوه علي مدي ثلاثة أيام، فتأكدت في الناس خلافته وأنّه من خلفاء الله.

*******