فإننا لا نستبعد أن يؤدي مؤتمر “صفقة القرن” في المنامة الذي يتزعمه جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، إلى تفجير الانتفاضة الثالثة، وإلغاء اتفاقات أوسلو والتنسيق الأمني المنبثق عنها، وانهيار كل خطوات التطبيع والمطبعين خوفا وذعرا.
فعندما تضع حركتا “فتح” و”حماس” مع الفصائل والأحزاب الأخرى خلافاتهما جانبا، وتتوحدان لتصعيد المواجهات مع قوات الاحتلال في الأيام الثلاثة التي ستشهد انعقاد المؤتمر، فإن هذا يعني أن المارد الفلسطيني قرر أن يعتمد على نفسه ويخرج من قمقمه، وأن يعبر عن رفضه لهذه المؤامرة التصفوية عمليا، وبالطريقة التي يفهمها الإسرائيليون والأمريكيون وحلفاؤهم العرب الذين يريدون بيع القضية الفلسطينية بالمال الحرام.
حركة “فتح” أعلنت التصعيد اليوم عندما أصدرت بيانا ألغت فيه اعتصامها يوم الثلاثاء المقبل، وقررت في بيان رسمي دعوة أنصارها إلى استبداله بثلاثة أيام من المواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي في كل الوطن رفضا لصفقة القرن وورشة المنامة أو “الندامة”، على حد وصف البيان.
حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” والجبهة الشعبية، ولجان المقاومة الشعبية، وكل الفصائل الأخرى أعلنت تخوين كل من يشارك في الورشة المذكورة، ودعت الجماهير الفلسطينية إلى النزول للشوارع وتصعيد المواجهات والصدامات مع دولة الاحتلال طوال فترة انعقادها، ومهما كان الثمن، فقد طفح الكيل، والمؤامرات لن تمر مهما كان الثمن، وتاريخ الشعب الفلسطيني حافل بالعطاء بالدم والأرواح.
الرسالة التي بعث بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس عبر لقائه مع مجموعة من شبيبة “فتح”، وأكد خلالها “أن القدس وفلسطين ليست للبيع” ربما تكون “كلمة السر” لتحريض الشارع الفلسطيني على الثورة والتصدي للاحتلال بكل الوسائل الممكنة.
هذا هو الرد الأبلغ على الاحتلال ومستوطنيه، والمتواطئين العرب مع جرائمه، الذين اعتقدوا أن الشعب الفلسطيني استسلم للأمر الواقع، وبات في استطاعتهم إقامة جسور التعاون والتحالف مع دولة الاحتلال باعتبارها دولة صديقة وحامية لهم، وتغولوا في نهش لحمه والتشكيك في وطنيته، ولا يدرون أن يوم الحساب قادم لا محالة.
الدول العربية التي سترسل وزراء ماليتها أو ممثليها للمشاركة في هذه المصيدة الأمريكية الإسرائيلية لإنهاء القضية الفلسطينية عبر عناوين مضللة، ستدخل التاريخ من باب التواطؤ والعمالة، أيا كانت أسبابها وذرائعها، وننصحها بالتراجع احتراما لمشاعر شعوبها قبل مشاعر الشعب الفلسطيني لأن هذه الخطيئة إذا جرى ارتكابها لن تغفر مطلقا، وستكون النتائج فوق كل التصورات.
لا يحتاج أي وزير أو خفير عربي، إلى الذهاب إلى المنامة لمعرفة تفاصيل هذه الصفقة، لأنهم على دراية كاملة بكل تفاصيلها، ودور كل دولة في تنفيذها، وحجم المقابل المالي الذي ستتقاضاه مقابل ذلك، فكوشنر وتابعه جيسون غرينبلات، زارا المنطقة عدة مرات طوال السنوات الثلاث الماضية سرا وعلنا، واجتمعا بزعماء العواصم المعنية، وتم استدعاء بعضهم إلى واشنطن، كما تم توزيع الأدوار، وجرى تحديد حجم الرشاوى المالية لكل حكومة، مساهمات كل دولة خليجية فيها، تماما مثلما جرى تسديد نفقات الحروب الأمريكية ضد العراق.
الصفقة ليست لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، وإنما معاناة الدول المعنية بتوطين اللاجئين وتسوية القسم الأكبر من ديونها، فمن قطع الأموال والمساعدات وفرض الحصارات على الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يفكر بتخفيف معاناته لأنه هو الذي خلقها متعمدا، وبتحريض من قبل عواصم عربية للأسف.
الشعب الفلسطيني لم يعد مكشوف الظهر، وأسير أكاذيب مبادرة السلام العربية، وبات يملك الخيار الأقوى والأكثر نجاعة، وهو خيار المقاومة للاحتلال وبأشكالها كافة، والانضمام إلى المحور الآخر الذي يقف في وجه المشاريع الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة، وهو محور بات يفرض وجوده ومعادلاته مدعومة بمئات الآلاف من الصواريخ والطائرات المسيرة.
عندما تنطلق الصواريخ الدقيقة من قطاع غزة المحاصر، وتصل إلى تل ابيب وحيفا، وتجبر عشرات الآلاف من المستوطنين في جنوب فلسطين المحتلة إلى الهجرة شمالا بحثا عن الأمان، فإن هذا يعني تطورا غير مسبوق ومصيري يعكس حدوث تغيير جذري في موازين القوى، ومعادلاتها في المنطقة بأسرها.
فلسطين ليست سلعة، أو صفقة عقار، يمكن شراؤها بمليارات من الدولارات، وشعبها، ومهما عانى من الجوع والحصار لن يركع ويقبل بالفتات، هذا شعبٌ كريمٌ يحمل رصيدا هائلا من الكرامة الوطنية وعزة النفس، وطور أدوات مقاومته بعقوله، وأذرعته، بمساعدة الأشقاء في محور المقاومة، بصمت الصابرين القابضين على الجمر، والآن بدأ يتحرك، وهو مثل الفيل لن يتوقف إلا بعد أن يحطم كل من يقف في طريقه.
يخطئ ترامب وحلفاؤه العرب إذا اعتقدوا أن الوقت بات ملائما لإقامة إسرائيل الكبرى، والوطن البديل في الأردن، ورفع الأعلام الإسرائيلية على صواري خيبر ومكة المكرمة، فالذي سيتصدى لهذه الصفقة ويفشلها هم أهل الرباط في غزة والجليل والقدس ونابلس والخليل وعمان، ودمشق وطهران وبغداد وصنعاء والضاحية الجنوبية في بيروت، والقائمة ستطول.
ربما لن نكون مبالغين ومتسرعين إذا ما تقدمنا بالشكر إلى كوشنر وصفقة قرنه دون أن يقصد، لأنهم بذروا بذور الصحوتين الفلسطينية والعربية، ومهدوا البيئة الأكثر ملائمة لبذر بذور الانتفاضة، وإعادة الاعتبار لثقافة المقاومة، وفضحوا كل المتواطئين العرب في الوقت نفسه.
عندما تذل صواريخ الفقراء الحوثيين المحاصرين صواريخ “الباتريوت” في مطار أبها وتفضح عجزها، وتؤكد عظمة من اخترعها وطورها في كهوف صعدة، وعندما تصل صواريخ قطاع غزة “العبثية” إلى عسقلان وتل أبيب، وتكشف عجز القبب الحديدية، وتصيب أهدافها العسكرية بدقة متناهية، وعندما يهدد السيد حسن نصر الله بحرق المنطقة إذا ما أشعلت إسرائيل فتيل الحرب، وتحرير الجليل، وينصح المستوطنين بالهروب طلبا للنجاة، فاعلموا أن زمن الهوان اقترب من نهايته، وبدأ زمن الشموخ والإباء ورفع الرؤوس عاليا، والفضل كل الفضل للرجال الرجال الذين عملوا ويعملون بصمت، وتحت الأرض وفوقها، من أجل الوصول إلى هذا الإنجاز العظيم الذي يضع حدا لكل أشكال المعاناة.
كل تريليونات ترامب والنفط لن تشتري مليمترا واحدا من فلسطين، الأرض المقدسة التي باركها الله ورسله، ومؤتمر المنامة سيفشل.. وسيعود المشاركون فيه ورؤوسهم مطأطأة في الأرض خجلا وعارا.. والأيام بيننا.
عبد الباري عطوان - رأي اليوم