المجاهد الشهيد محمد بروجردي
عنوان هذه الحلقة: مداراة الناس
مستلة من كتاب (تكه اى از آسمان)، أي: قطعة من السماء
- هناك أحد السجناء يصر على طلب لقاءك، ويرفض القبول بأي بديل... يقول أن لديه شيئاً مهماً يريد أن يطلعك عليه.
- سأكون عندكم الثامنة مساءاً إن شاء الله..!
أغلق محمد خط الهاتف، منهياً حديثه مع مدير السجن... وفي داخله شعر بالإرتياح العميق... فهو يأمل أن تكون زياراته المتواصلة للسجن، ولقاءه نزلاءه من المسلحين الإنفصالين قد أثمرت في تأهيلهم وتغيير وجهة نظرهم العدائية تجاه الثورة...
ذلك انه ينظر للقضية من أفق أرحب... ويرى أن هؤلاء السجناء وان كان الكثير منهم قد تورط في الجريمة، فإنهم ضحايا المخططات الأمريكية – الغربية التي تسعى، عبر إثارة العامل القومي أو المذهبي، أو كلاهما الى بث الفرقة بين المسلمين وتجزئة البلدان الإسلامية الى دويلات صغيرة عاجزة، وإبقائها رهينة هيمنة الغرب، ومرتعاً خصباً لا طماعه وتوسعه...
ألقى نظرة على ساعته... لا زال أمامه بعض الوقت على موعد السجن... داعبت ذهنه فكرة جميلة... انه الآن في مهمة كبيرة يحبها الله... انه في محراب عبادة، ألا يجدر به ان يسبغ الوضوء ليقف بين يدي الله داعياً من أجل نجاح مهمته...
وجد ان كل شيء قد أعد للقاء... حتى أن مدير السجن نفسه تخلى عن غرفته، ليهيء للقاء أجواء أهدأ...
جلس الرجلان وجهاً لوجه... قال السجين:
- يا ليت ان الجميع مثلك...!
رد محمد بحياء غير مصطنع:
- أستغفر الله... انني أقل الجميع....
بدا السجين مفكراً يبحث عن نقطة البداية... سأل:
- من أي منطقة أنت؟!
أجاب محمد بدعابة:
- من قرية نائية متوارية من الخجل في بروجرد...
ثم أخذ زمام الحديث، وسأل:
- ما الذي دفعك الى ركوب هذا المسار الخطر؟!
تلبد وجه السجين بغمامة من الهم، وقال بتأن وكأنه يعد كلماته عداً:
- كنا عائلة فقيرة... تمرر معيشتها من خلال صدقات الآخرين...
وعندما كبرت، برمت بهذه الحالة، وضقت بالفقر والذل، واستدرار شفقة الآخرين... ولم أجد أمامي الا الإنتماء لأحد الأحزاب الإنفصالية...
وابتسم بمرارة وهو يضيف:
- ومن لا يُأخذ ببريق السلطة والمال؟!... توقف قليلاً ثم تابع:
كنا نتحرك في القرى من أجل كسب الناس، وكان الفقراء يعدون خلف سياراتنا متوسلين، لنرمي لهم بشيء...
دمعت عيناه، وهو يقول:
- لقد ثبت لي، أن بإمكان الإنسان أن يتحول الى كائن ميت القلب، حيوان كاسر، بل أشد شراسة من الوحوش نفسها!!
أوقف محمد استطراد السجين، متسائلاً:
- وأين أنت من ذاك... أعني... هل تعد قلبك في عداد الأموات أم لا زال فيه بعض نبض من الحياة...؟
توقف محمد قليلاً، ثم أضاف:
- دعني أقول هكذا: ما هو موقفك وأنت ترى واحداً من اولئك المحرومين الذين كانوا يجرون خلف سيارات الحزب متوسلين، هل تجد قلبك يرق لهم، أم أن منظرهم لا يحرك فيك ساكناً؟!
أطرق السجين قليلاً، ثم رفع رأسه وقال:
- لقد كنت ولا زلت أشعر بآلام المحرومين، لأنني ذقت الحرمان وعانيت في حياتي الكثير من شضف العيش!
ربت محمد على كتفه، وهو يقول:
- وماذا لو وجدت عوناً صادقاً في هذا السبيل، هل أنت مستعد لأن تمد له يدك؟!
أجاب السجين بكلمات استشعر محمد فيها الصدق:
- أجل والله...!
أعرب محمد له عن أمله بنيل البراءة من القضاء، ثم ودعه وخرج.
خرج محمد من لقاء السجين وهو أكثر قناعة بالفكرة التي راودته طويلاً... فبغيرها يبقى المجال مفتوحاً للعناصر والجماعات المخربة للنفوذ بين الأهالي، وتشويه وجه الثورة الناصع، وإلقاء الأفكار التي تغذيها الدوائر الغربية الداعية للإنفصال عن جسد الوطن الأم... ولكن ماذا يفعل؟! ان فكرته لم تجد لها الصدى الطيب لدى المسؤولين... بل أن بعضهم لم يعطها أقل درجة من التفهم... أحدهم وصفها بالمجازفة والمخاطرة، ويقول:
- إذا وضعت السلاح بيد الأهالي، فكيف تستطيع التحكم به..؟ هل فكرت بتداعيات ذلك؟
وآخر يحذر من أن ينتهي الأمر بحرب داخلية..!
وثالث يقطع:
- إن مثل هذا العمل، لن يكون له أي مردود غير زيادة الجماعات المسلحة رقماً جديداً...!
لكن كل ذلك، لم يوهن من عزيمة محمد الفولاذية، وواصل كفاحة بدأب، حتى تمكن في النهاية من كسب الآراء لصالح فكرته بإنشاء قوة شعبية محلية وتسليحها، لمواجهة فلول الغرب وذيوله في كردستان...
وأعلن عن ولادة منظمة المقاتلين المسلمين الأكراد...
واخذت المنظمة تشق طريقها شيئاً فشيئاً، وتكسب جماهير المنطقة الى صفها...
ولاحظ الأهالي الطيبون في أفراد المنظمة الجديدة، طرازاً لم يألفوه في الحركات الإنفصالية...
فالإلتزام بالصلاة والشعائر الدينية... والأخلاق السامية، والمسارعة الى نجدة الأهالي، وحمايتهم، والتطوع لخدمتهم، والتعامل معهم بمحبة وأخوة...
فيما كان اولئك، متعجرفين متكبرين، ينزلون على الأهالي دونما دعوة، ويفرضون عليهم خدمتهم وتوفير الطعام ووسائل الراحة لهم، كاتاوة لابد منها...
ولهذا فقد وجد الأهالي في هؤلاء الأقرب الى نفوسهم وفطرتهم الإيمانية الصافية..
كانت سيارة محمد ورفيقه، تشق طريقها بصعوبة في ذلك الطريق الجبلي الذي غطته الثلوج...
ورغم عدم وضوح الرؤية التام، فقد بدا وكأن شيئاً اعترض الطريق...
ألقى محمد نظرة من خلال ناظوره العسكري، فلاحظ بوضوح دبابة تقف وسط الطريق...
تعجب من ذلك، وتساءل:
- ما معنى هذا؟!
أصبحا على مقربة من الدبابة، تناول بندقيته ونزل من السيارة... أشرف على قرية صغيرة، أحيطت بعدد من المصفحات والعربات العسكرية... تقدم قليلاً فرأى مسؤول الحامية العسكرية للمنطقة وعددا من الجنود... ألقى تحية مقتضبة وتساءل:
- ما الأمر يا حضرة الضابط؟!
اقترب الضابط وهو يقول:
- لقد تسلل عدد من الإنفصاليين الى هذه القرية، فاضطررنا لمحاصرتها..!
استفهم محمد وقد علت وجهه علائم الضيق:
- وهل اتصلتم بالأهالي؟!
- كيف نتصل بهم؟... ليس هناك من طريق... سوى اننا أطلقنا نداءاً عبر مكبرة الصوت ليسلم المسلحون أنفسهم... لكن لم تحصل أية استجابة.
رد محمد بألم:
- لكن تدابيركم العسكرية هذه ليست صحيحة.... فمن غير المناسب أن نفزع الأهالي، من أجل الإمساك بحفنة من المجرمين...
بان عدم الإرتياح على وجه الضابط، وقال محاولاً كتم غضبه:
- وماذا كان علينا أن نفعل؟!
رد محمد ساعياً الى تلطيف الأجواء:
- لقد بذلتم مجهودكم... وبقي عليَّ أن أسعى!... ناول سلاحه لرفيقه، ثم انطلق وحيداً باتجاه القرية... اعترض عليه رفيقه والضابط إلا أنه رد عليهما دون أن يتوقف:
- لا تخشيا شيئاً...!
لاحقت العيون محمداً، وهو يشق طريقه وسط الثلوج، صوب القرية... الضابط الذي أكبر هذه التضحية والشجاعة، وجه عبر الجهاز نداءاً لجنوده المرابطين حول القرية بمراقبة الموقف... كان الخوف والترقب وشد الأعصاب قد ساد الجميع... إلا أن محمداً الذي أصبح قريباً من البيوت، كان يسير واثقاً مطمئناً وكأنه عائداً الى بيته...!
وفجأة، انفتح أحد الأبواب وخرج رجل عجوز، وخطا نحو محمد... ثم ما لبثت أبواب أخرى أن فتحت أيضاً وخرج أهلها صغاراً وكباراً مستقبلين ضيفهم...
احتضن محمد الرجل العجوز... ثم أقبل يحيي الأهالي، ويقبل الصغار ويداعبهم، وفي لحظة خاطفة وثب رجلان من بين الأهالي... سحبا بندقيتين من تحت ملابسهما وألقيا بهما على الثلج أمام محمد...!
عينا الضابط اللتان كانتا تراقبان ما يجري عبر الناظور، انسكبتا دموعاً... أزاح الناظور عن عينيه، وراح يجففهما، وهو يقول:
- بوركت يا محمد... ما أراك إلا ملك كريم...!