المجاهد الشهيد ابراهيم همت
عنوان هذه الحلقة: بصيرة وإخلاص
مستلة من كتاب (معلم فراري) ، أي : المعلم الهارب
ما أن رآه يصعد المنبر ثانية، حتى عاودته ذات الأفكار التي غزت رأسه، عندما رآه في المرة الأولى.
إنه ليشعر أنه سبق له وأن رأى هذا الرجل... ولكن لا يتذكر أين... في آية مناسبة...
فكر في المرة السابقة أن يسأله... لكنه أحس، كما لو أن شعوراً غامضاً يمنعه... شعور شبيه بالحياء أو الإحساس بالذنب... لكنه لا يعرف لنفسه ذنباً تجاهه...
انتبه الى حالة الشرود التي استولت عليه... حاول تركيز ذهنه فيما يقوله الخطيب:
... وفي أخريات حياته الشريفة، ناشد النبي (ص) المسلمين، قائلاً: أي رجل كانت له من قبل محمد، مظلمة أو قصاص، إلا قام فيقتص مني... ان القصاص في الدنيا، أحب اليّ من القصاص في الآخرة على رؤوس الأشهاد.
أحس، كما لو أن شيئاً يومض في ذهنه... بدأ كنقطة صغيرة مضيئة، ثم تضخمت، حتى عادت بقدر وجه إنسان... وراح هذا الوجه يحاصره انّى التفت...
نهض خارجاً من القاعة... تخلص شيئاً ما من تلك الملاحقة، إلا أن عبارة النبي: (إن القصاص في الدنيا، أحب اليّ من القصاص في الآخرة على رؤوس الأشهاد لا زالت ترن في رأسه).
الثورة الإسلامية على أبواب الإنتصار... والشارع الإيراني يغص بالجماهير التي استجابت لدعوة قائد الثورة الكبير، الإمام الخميني...
وفيما بدأت قوات أمن النظام الملكي، تفقد السيطرة على الشارع، نجح شباب الثورة في استقطاب الجماهير، وتوجيه المسيرات المليونية، وتنظيمها على مستوى الزمان والمكان والشعار... خشية من تسلل القوى والعناصر الدخيلة...
وكواحد من الأساليب الإحترازية تلك... طبع الثوار شعارات مدروسة ووزعوها على عناصر مختارة ترافق المسيرات.
كانت المسيرة التي يرافقها همت تتحرك بانسجام، وهي تردد شعاراتها بقوة وحماس...
وفجأة رفع رجل يده، وراح يردد شعاراً نشازاً مغايراً لخط الثورة... فأثار الإرتباك في صفوف المتظاهرين...
تعالت الأصوات معترضة على الشعار، وضاق الصبر بهمت... وخشي من انفراط العقد، فوثب نحو الرجل، موجهاً اليه صفعة قوية...
احتج الرجل وكأنه لم يفعل شيئاً... إلا أن احتجاجه ضاع وسط صيحات الجماهير الداعية الى طرده من صفوفها.
وفوجئ همت بصوت رجل عجوز يهمس له:
- لماذا صفعت الرجل؟!
التفت همت لصاحب الصوت وقال:
- لأنه حاول شق صف الجماهير بشعارات مغايرة...!
تساءل العجوز مدققاً:
- هل رأيته بعينك يطلق الشعار؟
حاول همت أن يتذكر، فواصل العجوز:
- لقد كان شخصاً آخر، اطلق الشعار ثم فر!!
أصاب همت الذهول للحظات... الا انه قطع حديث العجوز، وراح يعدو بكل اتجاه، بحثاً عن الرجل...
دقق في وجوه المئات من الناس... بغير جدوى، فأحس بالإحباط، أين يجده وسط هذا السيل المتدفق من البشر...
وتوقف خيال همت الجامح، ليقول مع نفسه:
لكن، ها هو الرجل جاء بعد سنين بقدميه... ولابد ان يقتص لنفسه بأي ثمن...
كر عائداً الى القاعة... كان الخطيب قد أنهى محاضرته... فيما نهض بعض الحاضرين يرومون مغادرة القاعة، وفجأة استوقفهم صوت همت قائلاً:
- أرجو من جميع الإخوة التمهل قليلاً، وعدم مغادرة القاعة!
انشدت الانظار اليه فواصل:
- اني ظلمت انساناً يوماً ما، في اجتماع كبير... وانني عاجز عن حشد كل اولئك الناس ثانية... لذا فاني التمس هذا الأخ الكريم ان يقتص مني هنا... ثم تقدم ليقف امام الخطيب مطرق الرأس...
اختنق الخطيب بعبرته، ثم تقدم خطوة، ليطبع قبله على جبهة همت، الذي هوى على قدمي الخطيب يقبلهما.
استطاع همت بعد فترة قصيرة من توليه مسؤولية قيادة حرس الثورة الإسلامية في إحدى مناطق محافظة كردستان غربي البلاد، من كسب ثقة ومشاعر الأهالي، بل وايجاد تحول في مواقف بعض الجماعات الإنفصالية المسلحة.
ورغم الأجواء المأزومة التي خلفها نشاط تلك الجماعات، الا ان همت كان يتعامل بثقة تامة مع جميع العناصر التي تعلن توبتها، واعتزال العمل المسلح، او العمل في إطار قوات التعبئة الشعبية...
ومع ثقته الكبيرة بهمت، الا ان الصديق وعدد من زملاءه.. راودته الشكوك، في نجاح التجربة التي يخوضها همت مع الجماعات الإنفصالية.. فالتجارب السابقة، تكشف عن غدرها وخرقها العهود، فما معنى التعامل بحسن الظن، غير احتمال الانجرار الى تجربة مرة جديدة...
كان هذا السجال الذهني يملأ رأس الصديق، وهو يقف عند باب مقر قوات الحرس في دور الحراسة..
وعلى حين غرة، برز أمامه رجل فارع الطول، قوي البنية، وكأن الأرض قد انشقت عنه...!
القى التحية وقال:
- أريد التحدث الى مسؤولكم!
رد الصديق الذي لا زال تحت تأثير المفاجأة...
- ما اسمك؟ وفي أي غرض تريد أن تتحدث؟!
- انا كاكا سيروس... ولقد جئت لابلاغه استعدادنا لالقاء السلاح والعمل معه...
...ودخل كاكا سيروس على همت، وبعد ساعة خرج الإثنان معاً...
استغرب الصديق هذه الصحبة... فارسل برأسه، اشارة لهمت، فرد الأخير صراحة:
- انني ذاهب مع كاكا سيروس الى مقرهم، من اجل ان ندعو الآخرين للعمل معاً، في اطار الإسلام وخدمة الشعب والبلد.
قرأ الصديق التصميم في عيني همت... فعرف ان لا جدوى من الاعتراض، فاكتفى بالقول:
- سأرافقك!
كان هطول الثلج قد توقف منذ ساعات... الا ان الرياح التي تهب بقوة، حاملة معها عواء الذئاب واصوات اطلاق نار متفرقة؛ باردة لدرجة يحس معها الانسان، وكأنها تخترق عظامه.
كانت السيارة العسكرية المكشوفة – باستثناء مقصورة القيادة – تشق طريقها بصعوبة في طريق ضيق تحفه الثلوج... وكان كاكا سيروس القائد الحقيقي للرحلة، صامتاً، مستغرقاً في التفكير... وكمن انتبه فجأة...
أشار ان طريق جبلي منفرد، فوجه الصديق السيارة حيث أشار، ملقياً على همت نظرة سريعة، عله يقرأ ما يدور في رأسه...
وفيما خلا الطريق تماماً من أي سيارة أخرى، أو مارة، أخذ يسمع اطلاق النار، اكثر من ذي قبل...
وعلى حافة الطريق برزت من تحت الثلج قدمان وفوهة بندقية...
وفاجأ كاكا سيروس الصديق بضربة قوية على مقود السيارة، وصرخة أقوى:
- قف!
ثم اندفع خارج السيارة يتبعه همت والصديق...
عمل الرجال الثلاثة بسرعة على استخراج الجسد الذي طمرته الثلوج... وصاح كاكا سيروس، هذا كاكا نائب ، حارس الطريق...
انكب همت على صدر الرجل، متنصتاً لدقات قلبه... ثم سارع الى اجراء عملية تنفس صناعي له... قبل ان يصيح:
- هلموا لننقله الى المستشفى!
اقدم كاكا سيروس على حمل الرجل، ليضعه في الجزء المكشوف من السيارة.. فصاح ابراهيم محتجاً:
- بهذه الطريقة سنقضي عليه تماماً...
- لا مجال في مقصورة السيارة لرابع.... رد كاكا سيروس
قال همت:
- اجلسه في مكاني...!
صدم كاكا سيروس... فالجلوس في الجزء المكشوف من السيارة في جو ثلجي عاصف، يعني: الموت الطوعي..!
... وفي المستشفى، انزل جسد الرجل المتجمد من السيارة، وقد دبت فيه الحياة... فيما وجد همت منكمشاً على نفسه متجمداً...
وبعد يوم واحد غادر كاكا نائب المستشفى، فيما بقي همت راقداً لأيام اُخر.
... وفي الليلة التالية... أقبل رجل عجوز على مقر حرس الثورة يحمل خمس بندقيات ومعه اربعة شباب، وقال:
- انا كاكا نائب ، وهؤلاء الأربعة اولادي... جئنا لنعمل مع الأخ همت... ثم ابتسم وهو يضيف: اعرف ان الوقت غير مناسب... ولذلك سآتي غداً في الصباح... ثم وضع السلاح على الأرض، وانسحب مع اولاده.