المجاهد الشهيد ابراهيم همت
عنوان هذه الحلقة: الكلمة المسوولة
مستلة من كتاب (معلم فراري) ، أي : المعلم الهارب
من يدخل المدرسة عقب انسحاب قوات الأمن منها، يحسب أنها كانت مسرحاً لمعركة حامية الوطيس...!
معركة اسفرت عن تحطم عشرات الكراسي والمناضد الدراسية، وابواب الصفوف وزجاج النوافذ... إضافة الى الفوضى الشاملة:
الخشب المحطم... الأوراق المتناثرة... حقائب الطلاب المبعثرة...
ورغم هذا الركام الواسع الذي خلفته قوات الأمن... إلا أنها لم تستطع قتل ذبابة... فغادرت المدرسة، مثلما دخلتها خالية اليدين، دون أن تنجح في اعتقال معلم التأريخ...
كانت الحيرة تسيطر على الكثيرين في المدرسة... ما معنى هذا السلوك العدواني لقوات الأمن؟... أيعقل أنها لا تمتلك مخبراً واحداً يبلغها أن المعلم ترك المدرسة هارباً، فور القاء كلمته...
لكن الواعين أدركوا منذ البداية: ان العملية برمتها تستهدف إشاعة أجواء الخوف والرعب، داخل المدرسة، خشية من تكرر هذا التحدي غير المسبوق... وإلا فما معنى الإعتداء على بعض الأساتذة والطلبة والتحقيق معهم، دون أن يكون لهم أدنى صلة بما حدث، أو أي علاقة بمعلم التأريخ...
إذن فهي رسالة لهم... ولأي مدرسة أخرى قد يفكر أساتذتها أو طلابها "بالشغب" على النظام.
سرى نبأ الحادث بين التلاميذ سريان النار في الهشيم...
وبقي يهيمن على الوضع العام في المدرسة، والحديث بين المعلمين أو الطلبة أو كلاهما... قبل أن تعطل الإدارة الدوام للتغطية على معالم الفوضى السائدة...
كانت الشجاعة الفريدة التي أبداها معلم التأريخ، الأستاذ ابراهيم همت، شيئاً لم يسمع به الطلبة من قبل...!
صحيح أن بعض الخطباء يطرحون من على منابرهم، انتقادات جريئة للنظام، ويعرضون بحالات الفساد المستشرية في الدوائر، أو بين الموظفين الكبار... اما ان يتصدى أحد لفضح شخص الملك وفساد أسرته... فهاذا ما لم يفعله من قبل إلا رجلا واحداً... قائداً تأريخياً قال كلمة فملأت الآفاق: (لقد فقد الملك أي وزن له في الوسط الإجتماعي، الى حد أنه يعتبر، لو أن الملك لامس باصبعه البحر، لتنجس البحر...!).
لكن ابراهيم الذي أقدم على هذا الفعل مقلداً، تراه أخذ بالحسبان الثمن الكبير الذي سيدفعه، إذا ما أراد ترسم خطى قائده الفذ، الخميني الكبير..؟!
وأياً كان الأمر، فقد أدى موقف إبراهيم الشجاع ذاك الى حدوث انقسام في أروقة المدرسة...: أقلية خائفة مرعوبة، متظاهرة بالعقل والحكمة وبعد النظر... عدت تصرفه، مخاطرة غير مبررة والقاءاً للنفس بالتهلكة، وتهوراً، وما الى ذلك...
وأكثرية، تنبض قلوبها حباً بعقيدتها وغيرة عليها... ورحمة بالمظلومين والمحرومين من أبناء شعبها... وحمية للكرامة المهدورة... رأت في فعل ابراهيم، جهاداً وشجاعة، ورجولة يحسد عليها...
لكن.. أهي الشجاعة وحدها التي حببت استاذ ابراهيم لزملائه وتلامذته؟.. كلا... إنما هي: ايمانه العميق وأخلاقه السامية، وتواضعه للجميع، وتفاعله العجيب مع آلام ومعاناة المحرومين.
عادت المدرسة تواصل دوامها المعتاد... واستأنف الأساتذة إلقاء دروسهم اليومية... وشيئاً فشيئاً أخذت قضية أستاذ التاريخ والقنبلة التي فجرها، تنحسر عن أجواء المدرسة...
غير أن هذا الإستقرار الظاهري بدا كرماد يخفي تحته الجمر...!
فسرعان ما انتشرت إشاعة تقول: ان استاذ التاريخ ينوي العودة الى المدرسة لإلقاء كلمة...!
أثارت الإشاعة فزعاً حقيقياً لدى إدارة المدرسة... فالمدير الذي أخبره المعاون بالنبأ ووجهه مصفر: حاول الإستخفاف به أو هكذا تظاهر..!
بيدَ أن انتهاء الفرصة، وامتناع التلاميذ عن دخول الصفوف، أنذر بصحة الإشاعة..! الأمر الذي أوقع المدير في حيرة من أمره...
ماذا يفعل؟... أيتصل بالجهات الأمنية، ليطلعهم على الوضع في المدرسة؟
ولكن ماذا لو تبين انها خدعة؟ عندها سيصبح مادة للتندر على لسان اللواء ناجي قائد حامية الجيش والحاكم العسكري غير المعلن للمدينة... ناجي، هذا الضابط المغرور الفض... انه ليبغضه من اعماقه.. لكنه مضطر لإحترامه، بل والتذلل له، ماذا يفعل؟
قطع عليه المعاون سلسلة أفكاره، قال وهو يلهث ممتقع اللون:
- جناب المدير، جناب المدير..!
- ما وراءك؟... تساءل بخوف...
- اخرج لترى بنفسك ماذا يحصل؟!
- قل، ما الذي يحصل... رد بنفاد صبر...
- لقد جاء... لقد جاء...! ..وثب المدير من مكانه وهو يقول:
- من تقصد... استاذ ابراهيم؟!... رد الآخر مبهور الأنفاس:
- أجل.. ومن غيره؟!
الظهور المفاجئ لأستاذ ابراهيم وان كان اخاف المدير، بيد أنه انقذه من التخبط في حساب الإحتمالات...
إذ رفع سماعة الهاتف، طالباً اللواء ناجي... وفيما أخذ الحديث مجراه الرجلين، كانت المدرسة تضج بالصلوات، ترحيباً بالأستاذ الثائر.
لوّح الأستاذ بيده، يرد على تحية زملائه وتلاميذه، الذين سرعان ما انتظموا على شكل صفوف في الساحة...
كان ابراهيم يعلم أنه في سباق مع الزمن.. فهو معرض بين لحظة وأخرى للإعتقال.. فعليه أن يختصر كلمته ويركزها بعدة محاور رئيسية: التأكيد على عمالة النظام... كشف المزيد من فضائحه وفساده... الإشادة بتحرك الشعب ضد النظام... التنديد بقمعه المتواصل لأبناء الشعب، مع التركيز على الطلبة والقطاع التعليمي، واستنهاض الطلبة باعتبارهم الطليعة في أي نهضة شعبية..
منذ أحرفها الأولى... بدأت كلمة الأستاذ تأخذ منحى نارياً ملتهباً... وسرعان ما تأجج الحماس بين التلاميذ فراحو يصفقون بقوة وحرارة...
وفي الوقت الذي كان الأستاذ فيه مسترسلاً في إلقاء كلمته، كان الحصار يتكامل حول المدرسة من قبل قوات الأمن بقيادة اللواء ناجي...
وبدأت عملية الإقتحام... فتسلل الأساتذة والتلاميذ الى الصفوف فيما واصل ابراهيم كلمته ولآخر ثانية، قبل أن يضع اللواء قبضته عليه، وهو يقهقه بشكل هستيري، صارخاً:
- وقع الفأر في المصيدة.... ثم كبّل يديه، ودفعه باتجاه سيارته..
وبحركة خاطفة من يده، انتابت ابراهيم حالة القيء لدى دخوله السيارة... فصرخ اللواء... أخرجوه.. لقد لوث المقاعد... ثم تابع الصراخ: رافقوه الى دورة المياه الصحية...
لدقائق عدة، كان صوت التقيء، وتدفق صبور الماء يسمعان، من داخل المرافق التي أحكم ابراهيم غلقها... ومرت دقائق أخرى، فضاق اللواء ذرعاً، فنادى بأفراده: كفى... لتنهوا هذه المسرحية... فراح هولاء يطرقون الباب صارخين:
- افتح الباب.... إلا أن ابراهيم التزم الصمت تماماً... ولم ينبس بحرف واحد... إزاء كلمات التهديد والوعيد اتي راحت تنهال عليه...
وكانت المفاجأة المذهلة بعد أن حطموا الباب... إذ لم يجدوا احداً في المرافق... سوى أن نافذتها العلوية وصنبورها قد تركا مفتوحين...
عندها عرفوا أن الفصل الأخير لما دعاه طيش اللواء بالمسرحية، لم يسدل عليه الستار بعد...!
نزل هروب الأستاذ على اللواء ناجي، نزول الصاعقة... فهاج هيجان الثيران، وراح يضرب كل من يجده في طريقه... ولم يسلم مدير المدرسة ولا معاونه... فنالتهما ركلتان طرحتهما أرضاً...
وللتغطية على هزيمته النكراء، خرج اللواء من المدرسة، وهو يعربد متوعداً أفراده بانزال أشد العقوبات بهم!!
ومع انسحاب آخر سيارة لقوات الأمن، أخذ الأساتذة والتلاميذ بمغادرة الصفوف، وهم يصوبون النظرات الشامتة للمدير ومعاونه...
قال أحد الأساتذة معرضاً بالمدير:
- رحم الله براقش فقد أصبحت مثلاً يضرب..!!
رد عليه الآخر:
- لا والله... لا رحمها ولا عفا عنها... بل غضب عليها وأبعدها..!
تساءل ثالث، متصنعاً بجدية:
- لماذا، لماذا؟!
أجاب الثاني:
- كأنك لم تسمع يا صديقي المثل القائل: على نفسها جنت براقش!