المجاهد الشهيد إبراهيم هادي
عنوان هذه الحلقة: على أعتاب اللقاء
مستلة من كتاب (سلام بر ابراهيم) أي سلام على إبراهيم
مضى على حركتها ما يقرب الثلاث ساعات، ولم تصل الهدف المحدد بعد...
أمر قائد القوة – التي تم اختيارها خصيصاً لتنفيذ العملية – مقاتليه بالتوقف... ومال على إبراهيم، وقال:
- أحسب اننا قطعنا ما يزيد على ستة كيلومترات...
تأمل إبراهيم قليلاً... وهز رأسه علامة التأييد...
عاد الآمر ليقول:
- ترانا أضعنا الطريق..؟!
تلفت حواليه، وقال وهو يشير بيده:
- سأذهب لاستطلاع هذا الجانب... أما أنت فخذ في هذا الجانب...
كانت المهمة العسكرية التي كلفت بها القوة، تقتضي التسلل الى الخطوط الخلفية للعدو، وضرب موقع مدفعيته الثقيلة...
ورغم الصعوبة الإستثنائية للمهمة، إلا أن أفراد القوة – الذين يتمتعون بدرجة عالية من المعنويات والإطمئنان النفسي – وجدوا في هذا التوقف الإجباري، فرصة طيبة، لكي يخلدوا الى النوم.
عاد الآمر ثم تبعه إبراهيم، دون أن يقفا على أية علامة يمكن أن تقودهم الى مواقع العدو...
سأل الآمر مخاطباً إبراهيم:
- ماذا ترى؟!
رد إبراهيم بيقين:
- لم يبق أمامنا من طريق، سوى التوسل الى الله...
اشفع إبراهيم القول بالعمل... فهوى الى السجود... وسرعان ما اندمج في نجوى حارة...
كلماته الضارعة المخلصة التي خالطها النحيب، كانت تلامس اسماع المقاتلين القريبين منه، فتخفق لها قلوبهم.. فينخرطوا هم في الدعاء أيضاً... وشيئاً فشيئاً، سرت العدوى لتشمل الجميع.
ابتعد قليلاً عن مقاتليه... راح يبحث عن مكان أهدأ يستطيع في أجواءه، التفكير واتخاذ القرار...
القضية قبل كل أحد مسؤوليته هو... أنه ليدرك قبل غيره، حساسية الموقف الذي قاد اليه مقاتليه... هو لا يشك أنهم الآن في قلب قطعات العدو... وليس هناك من مواضع أو سواتر، أو أي شيء آخر يمكن الإحتماء بها... ليس غير ظلام الليل، وإذا ما انكشف، سيكونون طعمة سائغة للعدو... سويعات ليس إلا...
فكر في الإنسحاب، لأول مرة يفكر فيه... غير أنه شعر كما لو أن هناك سداً منيعاً، يحول بينه وبينه...
ابتسم بمرارة... الى أي جهة ينسحب... وهل يعرف الإتجاه الذي سلكه، وسط هذا الظلام، ليحدد اتجاه العودة.
أحس بصوت خشخشة قريب... استيقظت حواسه كلها... التفت ليرى أحد المقاتلين مقبلاً عليه... ولما دنى، تبين أنه إبراهيم...
قال دون مقدمات، وهو يشير بيده: سأذهب أتفقد هذه الناحية.
رد دون تفكير:
- جيد...
تحرك إبراهيم، غير أنه استوقفه، وقال وهو يناوله ناظوره الليلي..
- استعن بهذا...
عادت تلح عليه أفكاره... لا يدري كم مضى من الوقت...
ترى، هل أخذته إغفاءة... أم انه استغرق في أفكاره الى هذا الحد...
لا يدري... غير أن صوت إبراهيم، أعاد له شعوره بالزمن.
قال إبراهيم بعجلة وهو يبتسم:
- نحن على بعد نحو كيلومتر واحد من مواقع مدفعية العدو...
.... وبدأ الهجوم... كان قوياً وسريعاً ومباغتاً بحيث أضاع من أيدي القوات البعثية أي خيار آخر، سوى الإستسلام.
... وخلال الإستراحة التي سنحت للمقاتلين، علق أحدهم قائلاً:
- يا له من خطأ فادح، قاد الى نصر مبين...!
رد عليه إبراهيم:
- الله هو المسدد..!
لم يكن يعرف بواعث سلوكه هذه الأيام... لقد تغير إبراهيم كثيراً... أصبح قليل الكلام، كثير الذكر، مداوماً على تلاوة القرآن...
وليس سلوكه هو الوحيد الذي تغير.. بل حتى ملامحه، غدت أكثر نورانية وإشراقاً...!
وخلال الأيام القليلة التي قضياها معاً في الإجازة... لاحظ حرص إبراهيم على توديع أرحامه وأصدقائه...
وكما غادراها معاً، عادا الى الجبهة معاً...التي بدت كما لو أنها تنتظرهما...
قال صديق إبراهيم:
- يبدو أن قواتنا ستتحرك بعد ساعات، لتنفيذ عمليات واسعة.. ألا تفكر بأخذ قسط من الراحة، لنلتحق بها فيما بعد...
رفض إبراهيم العرض... ونهض من ساعته، ليسجل حضوره بين أفراد الفوج الثاني...
وفيما بكر الفوج الأول بالتحرك، توالت حركة بقية الأفواج على أثره...
ولم يمض على وقت الحركة سوى ساعتين، حتى جاء الأمر بالتوقف، ثم تلى ذلك أمر آخر بالإنسحاب...
كان الفوج الأول قد عبر الخندق الثالث، عندما جاء الأمر بالإنسحاب...
أخذ مقاتلوا بقية الأفواج بالتراجع... إلا أن هذه الفرصة لم تتح للأول...
كانت المنطقة تخضع لقصف مدفعي مركز... أصوات إنفجار القذائف التي غدت دوياً متصلاً.. تكشف عن حجم الكثافة النارية التي كان يلقيها العدو على المنطقة...
سمع إبراهيم بقرار الإنسحاب، بيدَ أنه رفض أن يعود...
قال انه سيكون مع أفراد الفوج الأول...
ضم الى رشاشته الخفيفة قاذفة، ثم واصل التقدم.
واجهت فرق الإسعاف مشكلة عويصة... فقد وجدت في طريقها عائقاً صناعياً على شكل أخاديد أرضية، بعرض ثلاثة أمتار، مملوءة بالقير والنفط الأسود...
وتكدس العشرات من الجرحى على حافة الأخدود... كانت جراح العديد منهم خطيرة.. وكان مضي الوقت يزيد من وخامة وضعهم الصحي، كما يزيد من احتمال تعرضهم للإصابة ثانية...
وشد إبراهيم هذا التحشد غير الطبيعي، فاقترب وسأل بإشفاق:
- خير إن شاء الله!
قال المسعف:
- كما ترى، لم نهتد لأي حيلة للعبور...
أجال إبراهيم التفكير قليلاً، ثم سأل:
- كم لديكم من نقالات للجرحى...
رد المسعف مستغرباً السؤال:
- عدد جيد...
أجاب إبراهيم:
- إثنان تكفي... سأعمل لك جسراً صغيراً إن شاء الله...
ألقى سلاحه... حسر عن ساقيه... نزل وسط الأخدود، وقال:
- ناولني نقالتين...
دهش المسعف... إلا أنه استجاب سريعاً...
وضع إبراهيم أحد طرفي النقالتين على حافتي الأخدود، فيما أسند الطرفين الآخرين على كتفيه، ثم نادى على المسعف:
- أعبروا...!
بدا المسعف غير مصدق... اختبر الحالة بنفسه، قبل أن يسارع في دعوة بقية زملائه...
... إبراهيم التي أتم مهمة الجسر، حمل سلاحه مخترقاً منطقة الحصار، ليشارك إخوته المجاهدين محنتهم...
لكن قدمي إبراهيم لم تطأ هذا الطريق بعد...لقد اختار طريقاً آخر... طريقاً قصيراً يوصله للهدف الذي نذر عمره من أجله...
.... مقاتل جريح، تسلل من منطقة الحصار... رأى إبراهيم وعاشره شطراً من أيام الحصار، دون أن يعرفه... كان يقول:
لقد رأيت إنساناً عجيباً... إبراهيم... أجل، كانوا ينادونه إبراهيم... رجل واحد... يقاتل... يسعف الجرحى... يوزع الغذاء والماء على المقاتلين... يقوم بكل ذلك تباعاً...
أجل... إنسان عجيب... عامل دؤوب لا يعرف التعب، وشجاع جسور لا يعترف بالخوف...
قال لي:
- يجب أن تنسحب ما دمت قادراً على الحركة...
أختنق بعبرته وهو يضيف:
- الإبتسامة الدائمة على ثغره، تشع في نفوس المحاصرين الأمل وتمدهم بالقوة.... أما صوته الملكوتي، وهو يترنم بشعر من ملحمة كربلاء، فكان يحلق بمستمعيه الى عوالم ربانية شاهقة... ومشاعر إنسانية سامية...
إنهمك في البكاء لدقائق، ثم رفع رأسه وهو يقول:
- لا أقدر أن أمحوه من خاطري... أراه ماثلاً أمامي أنى اتجهت... بل لا أريد... أشعر أني لا أطيق ذلك...
راح يناجي نفسه، وكأنه يجلدها:
- كيف تركته... أنا لم أتركه... بل هو الذي حملني على الإنسحاب...
- يا إلهي... يا إلهي... راح يصرخ بقوة، كما لو كان يشعر بلذع آلام لا نهاية لها.
الكل يعرف أنها تعشق النور... تهيم به... بل وتلقي نفسها في ضرام النار لتحترق من أجله......!
تلك هي قصة الفراشة التي تظل تدور وتدور حول ذبالة الشمعة حتى تحترق...
أجل.. ذلك هو مثل إبراهيم الذي أحب الله، فقهر نفسه مراراً من أجله، ولم يستشعر الرضا، إلا أن يقدمها قرباناً على أعتاب اللقاء.