المجاهد الشهيد إبراهيم هادي
عنوان هذه الحلقة: معجزة الأذان
مستلة من كتاب (سلام بر ابراهيم) أي سلام على إبراهيم
حرب النيابة التي شنها النظام المقبور في العراق، استهدفت، وفي اولى مراحلها، المراكز المدنية والسكنية في ايران.
ويبدو أن السياسيين الغربيين الذين خططوا لهذه الحرب، راهنوا على تحقق نتيجتين أساسيتين بهذا الصدد.
ميدانية متمثلة في تدمير أعلى قدر ممكن من المراكز الخدمية والمدنية عموماً، بغية خلق المزيد من المشاكل بوجه النظام الإسلامي الوليد، وإشغاله بمعالجتها...
وسياسية مستهدفة فصم العلاقة، وضرب حالة التلاحم القائمة بين الشعب والنظام، عبر المجهود الدعائي الإعلامي، الذي يحمّل النظام الإسلامي مسؤولية الحرب وتداعياتها...
ومنذ الأيام الأولى لها، أخذت الحرب تدفع بالأرقام المتزايدة من الضحايا المدنيين... فالقصف الجوي والصاروخي الذي تركز على المدن الحدودية إبتداءً، إمتد ليشمل المدن في العمق الإيراني بما فيها العاصمة.
وأصبحت المدارس، كما المستشفيات والمساجد والدور، مرمى لهذا القصف الوحشي..
الجماهير التي كانت في أعلى مداها الثوري، وعت حقيقة المؤامرة واستهداف ثورتها وخيارها الإسلامي...
كما أدركت مدى قسوة العدو ووحشيته... فنهضت للدفاع عن عقيدتها ووجودها، عبر رفد جبهات القتال بأفواج المقاتلين...
وكمثل الكثير من زملائه الذين القوا بالأقلام وعدة التعليم، ليحملوا البندقية وعدة القتال؛ فعل إبراهيم... الذي كان من السباقين الى الإنخراط في جبهات الحرب.
التحق إبراهيم بإحدى جبهات القتال في الجنوب...
كانت التمارين والتدريبات متواصلة في تلك الجبهة، إستعداداً لتنفيذ هجوم محدود...
وبين الكثير من المقاتلين الإيرانيين الذين انطوت قلوبهم على العزم القوي والمعنويات العالية، من حضروا الى سوح القتال وهم خالي الأيدي...إذ لم يتوفر لهم حتى السلاح الخفيف...
ولن يتأتى لك هنا أن تسمع أدنى إحتجاج أو تذمر، ذلك أن الجميع كام يعرف، أن البلاد تعاني الحصار الغربي – الأمريكي..
كان المقاتلون قد فرغوا تواً من أداء صلاة الصبح، عندما تساءل أحدهم:
- هل منكم من رأى إبراهيم؟
أجاب العديدون بـ لا...
قال الأول:
- افتقدته منذ منتصف الليل، ولم أقع له على خبر حتى الآن.
نظر أحدهم في وجه الآخر... ثم راحوا يتداولون الموضوع قبل أن يتفرقوا... طائفين على المواضع... علهم يصلون الى طرف خيط يقودهم الى إبراهيم...
وبعد ساعة، أرسل الرصد إشارة : الى أن طابوراً يتألف من عدد من الجنود أخذ في الإقتراب.
وفي الوقت الذي بدأ فيه المقاتلون بأخذ حالة الإستعداد، أعطى الرصد توضيحات جديدة تقول: ان عدد الجنود ثلاثة عشر، وهم يرفعون أيديهم علامة الإستسلام، ويقودهم إبراهيم ومقاتل آخر...
ووصلت قافلة الأسرى... فذهل الجميع... كان إبراهيم ورفيقه شبيهين بمشجبيْ سلاح متحركين.
بادر مقاتلان الى إنزال قطع السلاح التي حملها زملاءهما، فيما أخذ ثالث يتطلع في وجوه الأسرى وقد كسته علامات الغضب، قبل أن يوجه لأحدهم صفعة على وجهه...
وثب إبراهيم صارخاً ، وقد اتسعت حدقتاه غضباً:
- لأي شيء صفعته؟!
إرتبك المقاتل، وتمتم:
- أليس هو عدواً؟
حدق إبراهيم في وجهه، وقال:
- كان عدواً.. أما الآن فهو أسير.. ثم أضاف وقد زايله بعض الغضب:
- هؤلاء لا يعرفون أساساً لماذا دفعوا لمقاتلتنا؟
بقي المقاتل ذاهلاً للحظات، ثم قال:
- إنني أعتذر... يبدو أني تصرفت بوحي من الإنفعال... ثم تقدم ليقبل الأسير.
تملكت الأسير الحيرة، وهو يوزع نظراته بين المقاتل الذي وقف يعتذر إليه وإبراهيم.
الهجوم الذي بدأ أوائل الليل ، إستطاع أن يحقق كل أهدافه، باستثناء السيطرة على أحد التلال...
وبدا أن المقاومة في هذا المحور، تركزت في نقطة عسكرية أقيمت في موقع معقد التضاريس، يقع أسفل التل، مشكلة أشبه بالبوابة إليه...
أمام المقاتلين، الساعة المتبقية على الفجر، وبغير ذلك، ستكون مواصلتهم القتال في وضح النهار، أمراً بالغ الخطورة... خصوصاً مع قلة أسلحتهم، وعجزها عن مواجهة الطائرات المروحية والدروع...
تقدم أحد المقاتلين من إبراهيم، وسأل:
- ألم تحضرك فكرة معينة للقضاء على مقاومة هذه النقطة... لقد بدأ الوقت يضايقنا؟!
قال إبراهيم بعد تأمل قصير:
- أعتقد أن الطريق الوحيد الممكن، هو الإقتراب منها، واستهدافها بقنبلة يدوية..
وافق المقاتل على الفكرة، فيما بدأ إبراهيم يسعى لتنفيذها...
حبس المقاتل نفسه في صدره، وهو يرى إبراهيم يزحف مقترباً من النقطة... ثم يتوقف عن الزحف ليرمي بالقنبلة ...
ودوى الإنفجار... إلا أنه كان بعيداً نسبياً...
وثب إبراهيم راكضاً بأقصى سرعته باتجاهها، ثم قذف بقنبلة ثانية، فدوى الإنفجار وسط النقطة هذه المرة...
وبإشارة من إبراهيم هجم بقية المقاتلين، ليطهروا النقطة بالكامل...
... ولكن بدا لهم أن هذا الإنجاز رغم أهميته، لم يقدم مفاتيح السيطرة على التل كما كانوا يظنون.
ساد شيء من الهدوء وضع الجبهتين...ومع انبلاج الخيوط الاولى للفجر، انطلق صوت المؤذن قوياً رخيماً في الجانب الإيراني...
تنادى المقاتلون، قبل أن يروه...إنه إبراهيم...ثم قام بعضهم يتطلع إليه...
كان إبراهيم يقف بكامل قامته مؤذناً، وكأنه يقف في مسجد وليس ساحة قتال... فأذهلهم الموقف... وأخذوا يصرخون:
- ماذا تفعل يا إبراهيم... إجلس قبل أن يستهدفوك...!
إلا أن إبراهيم واصل الأذان، وكأنه لا يسمع...
كان صوته الرخيم يصدح بكلمات الأذان القدسية، فتردده الوديان محطمة رهبة الحرب وشعور الخوف...
ومع الكلمة الأخيرة، إنطلقت رصاصة بعثية، لتستقر في عنق إبراهيم.
دخل أحد المقاتلين على مسؤول الموقع وهو يصيح:
- إنها معجزة الأذان... معجزة الأذان...!
فوجئ المسؤول، وقال:
- ما الذي حصل..؟
- اخرج بنفسك لترى... رد المقاتل وهو لا يتمالك نفسه من الفرح.
خرج المسؤول من الموضع... ليجد نحو عشرين جندياً عراقياً، يتقدمهم آمرهم، رافعين راية بيضاء، وهم في طريقهم الى الموقع...
أعطى المسؤول أوامره، خشية من وجود مكيدة...
غير أن وصول الجنود العراقيين قلب الموقف تماماً...
قال آمرهم:
- لقد أمرت بسحب كامل القوة المتمركزة على التل.. فسارعوا الى الإستقرار فيه..
سأل أحد المقاتلين:
- وما الذي دفعكم الى تسليم أنفسكم؟!
أجاب الآمر:
- إن ما شاهدناه بأنفسنا، يثبت أنكم مسلمون وملتزمون بالقيم الدينية... ولهذا فقد وجدنا أنفسنا غير قادرين على مقاتلة إخواننا في العقيدة...
توقف قليلاً عن الكلام، ثم قال:
- إن كان يحق لنا أن نتقدم بطلب وحيد، فهل انتم قادرون على تحقيقه لنا؟!
قيل له وما هو؟!
أجاب:
- نرجو أن تسمحوا لنا برؤية المؤذن...
إبراهيم الذي كان يرقد في أحد المواضع، بانتظار نقله الى المستشفى، إستقبل على فراشه الجنود العراقيين.. الذين بهرتهم شخصيته الصادقة المخلصة الشجاعة... فراحوا يقبلونه وهم يبكون.
غص المستشفى الميداني بعشرات الجرحى...
كان الأطباء يجرون هنا وهناك، لإسعاف الجرحى، وتقييم حالاتهم قبل أن يأمروا بنقلهم الى المستشفيات الأخرى...
القاعة الرئيسة للمستشفى، ضجت بأصوات الجرحى وأنينهم...!
ومن بين الآهات والأنات، انبعث صوت رخيم مترنماً بأبيات من الشعر...
الشعر يحكي الإباء الحسيني... بطولات رجال كربلاء الأوفياء.. يصور فتيانها الذين إقتحموا ميدان القتال مرتجزين بكلمات، تجعل الدماء تغلي حماسا...
ورويداً.. رويداً.. هدأت القاعة إلا من صوت إبراهيم الذي واصل إنشاده وعيناه تتوقدان بالحماس.