المجاهد الشهيد إبراهيم هادي
عنوان هذه الحلقة: البطل الذي قهر نفسه
مستلة من كتاب (سلام بر ابراهيم)، أي سلام على ابراهيم
بعد شوط طويل من التدريب... غادر إبراهيم قاعة المصارعة... فيما جلس مدربه الخاص الى جنب أحد زملائه، وانشغلا بالحديث عن التصفيات القادمة، واللاعبين المؤهلين، وتوقعات الفوز والخسارة...
قال المدرب الآخر:
- اسمعت آخر الأخبار بشأن إحتفالات كأس البطولة... وتابع دون انتظار رد صاحبه:
- أعلن في التلفزيون أن ولي العهد سيحضرها... وسيقوم بتوزيع الجوائز بنفسه...
بقي مدرب إبراهيم ساكتاً وكأن الأمر لا يهمه، فيما تابع الآخر:
- من الطبيعي أن يتلقى الأوائل جوائز قيمة من يد ولي العهد...
ودون مناسبة أو تمهيد، إنتقل بالحديث الى ناحية أخرى، قائلاً:
- إني لأعجب من تلميذك إبراهيم هادي... إنه ليبدو هادئاً أكثر مما ينبغي...
ضحك مدرب هادي، وقال:
- صحيح ما تقول... لكنه في حلبة المصارعة شيئاً آخر...
أمسك عن الكلام قليلاً ثم قال:
- قامته الممشوقة، وذراعاه المتراميان القويان، يجعلان منه نمراً في الهجوم...
ثم أطلق ضحكة مجلجلة، وأضاف: ما لم يكسب الجولة، فلن يستطيع أحد الإفلات منه بسهولة...
وتابع يقول، مواصلاً الضحك: لهذا، إخترت له لقب: النمر الصامت.
أطلق المدرب الثاني، ضحكة قصيرة، مجاراة لزميله، قبل أن يلحظ مسؤول الملعب، مقبلاً عليهما.
نهض الإثنان مرحين بالمسؤول... قال الأخير مخاطباً مدرب إبراهيم:
- عندي لك مفاجأة غير مريحة...
رد المدرب متوجساً:
- خير إن شاء الله...!
- لقد قرر إبراهيم الإنسحاب من المباريات...
فغر المدرب فاهه، وتساءل:
- الإنسحاب...؟! ماذا تعني؟ ثم استدرك: أقصد، لماذا؟!
- لم يقل شيئاً، سيضر ذلك – من غير شك – بمستقبله الرياضي!
بان على وجه المدرب الوجوم... بيدأنه لم يعلق بشيء...
واصل المسؤول الحديث دون انقطاع، في حين غرق مدرب إبراهيم في هواجسه، متساءلاً: إن كان إنسحاب ابراهيم على علاقة بحضور ولي العهد إحتفالات الكأس... ثم كمن جزم بهذا الإحتمال... هز رأسه مراراً.
هدوءه غير المعتاد ينم عن سكينة نفسية عميقة... وقلبه الخافق بحب الآخرين، ينطوي على أعظم هبة إلهية... هي الرحمة...
ترى، ألهذا كان أبوه لا يتردد من التصريح بإيثاره على بقية إخوته وأخواته الخمسة...
كان يجيب إذا ما سئل: لماذا أنت مولع بهذا الصبي، دون من هم قبله أو بعده من أولادك؟!
- أحس أن له شأناً آخر... ويستطرد:
- أرجو أن يكون عبداً صالحاً لله..!
ولد إبراهيم هادي في طهران عام ۱۹٥٦ من عائلة متدينة فقيرة الحال... كان أبوه رجلاً مؤمناً، يعمل بقالاً، يكدح من أجل تمرير معاش أسرته، شديد الحرص على إطعامها القمة الحلال.
ويحل اليوم الذي تحين فيه منية الحاج حسين... فترزأ به أسرته... ويذوق إبراهيم بفقده اليتم وهو صغير...
بيد أن الحياة تواصل مسيرتها... فيكبر الصغير... ويصبح في عداد الرجال... لكن ذكرى الأب الحاني، تبقى حية في ذهنه... فيترحم على أبيه كثيراً ويقول: إن نجاح أبي في تربية أطفاله، يعود إلى المشاق الذي كابدها في طريق نيل الرزق الحلال...
ويشير الى ذكرياته مع أبيه باعتزاز، فيقول: كان أبي يساعدني على حفظ القرآن الكريم... يصطحبني معه الى المسجد... وكان يجلله الفخار، وهو يضع نفسه في خدمة هيئة سيد الشهداء.
بدأت تصفيات أندية المصارعة في مختلف أنحاء إيران لعام جديد...
إبراهيم الذي بلغ دور نصف النهائي في وزن ۷٤ كغم باقتدار تام... كان أداؤه العالي، يرشحه للفوز دون منازع، ويجعل من المباريات الأخيرة، مجرد نزهة أو لعبة روتينية...
كان الحديث الدائر في أروقة الملاعب: إن إبراهيم مرشح للإنضمام إلى المنتخب الوطني...
ويحل موعد المباريات النهائية... ويصحب إبراهيم إلى الملعب صديقه، الذي راح يتحدث عن أصداء أداء ابراهيم الرائع، وتصاعد حضوض ترشحه للمنتخب...ثم تمنى له الفوز قبل ان يفارقه متجها الى منصة المتفرجين .
وعلى اعتاب حلبة حلبة المصارعة، التقى ابراهيم مدربه متزودا منه بآخر توصياته...
وبثقة بادية بالنفس ، قفز إبراهيم الى الحلبة، فتبعه منافسه... إبتسم له إبراهيم، ومد إليه يده مصافحاً... فصافحه الآخر وهمس إليه بشيء، ثم رفع يده مشيراً الى منصة المتفرجين، فهز إبراهيم رأسه...
إستغرب صديق إبراهيم – الذي كان يتابع ما يجري على الحلبة بعيون مفتوحة – وأسر في نفسه، سؤال إبراهيم عن الأمر فيما بعد.
إشتبك المصارعان... وتعالت صيحات المشجعين... ومرت الدقائق الأولى وإبراهيم يلعب بطريقة دفاعية متحفظة... وبمرور دقائق أخرى، غدا واضحاً أنه يناور فقط، ولا يرغب الدخول في اشتباك حقيقي... وفيما أوشك مدرب إبراهيم على الخروج عن طوره، وهو يواصل الزعيق، بدا إبراهيم وكأنه لا يسمع شيئاً... بل ساعياً الى تبديد الوقت، فيما لا طائل من ورائه.
وبعد إنذارين وجههما دون أن يغيرا من واقع الحال شيئاً، رفع الحكم يد المصارع الآخر، معلناً فوزه.
مد إبراهيم يده لمنافسه مهنئاً، فشد الآخر على يد إبراهيم بحرارة زائدة... ثم انخرط في نوبة بكاء من شدة الفرح...
صديق إبراهيم الذي كان يغلي غضباً، هبط من منصة المتفرجين صارخاً في وجه إبراهيم:
- ماذا كنت تفعل أيها البطل... ثم ضربه على ذراعه، وهو يضيف:
- إن كنت لا تنوي المصارعة حقاً... فلأي شيء جعلتنا نترقب كل هذا الوقت..؟!
فتبسم إبراهيم وقال له:
- ليس هناك ما يدعو لأن تؤذي نفسك...!
تلقى الصديق هذه العبارة كالصفعة، فاندفع الى الخارج...
كان الزحام على أشده، عند الباب الرئيسي للملعب...
تقدم صديق إبراهيم يشق طريقه بصعوبة وسط الناس... وفوجئ بالمصارع الثاني وخلفه إمرأة عجوز لا تسعها نفسها من فرط السعادة، وحوله ذووه وأصدقاؤه...
كان الجميع يحس بالفرحة الغامرة...
أشاح الصديق بوجهه، وسارع من خطوه... غير أن صوتاً يناديه طرق سمعه بوضوح...
إلتفت الى مصدر الصوت، ليرى المصارع يلوح إليه بيده...
توقف، وقال بصوت يشوب نبراته التوتر:
- نعم...!
تقدم الرجل إليه وقال بلهجة ودية:
- أحقاً إنك صديق إبراهيم؟
رد الصديق دون أن يخفف من حدته:
- ألديك أوامر أخرى؟
أجاب الرجل بنبرة بادية الإخلاص، دون أن يلقى بالاً لتهكم محدثه:
- أغبطك على هذا الصديق... إنه في الواقع رجل عظيم..!!
- استوقفت العبارة صديق إبراهيم وبدأ يصغي بجد... وتابع الرجل:
- لقد صارحته – قبل بدء الجولة – أنني أعرف أن الفوز من نصيبه، وقلت له: كل ما أرجوه أن تراعي موقفي... ذلك أن والدتي وإخواني يتابعوننا هنا بين المتفرجين...
ثم إبتسم بخجل، وتابع:
- صديقك الشهم، لم يكتف بما طلبت، بل فعل أبعد من ذلك، فعل ما لم يخطر لي أو لغيري على بال...!
تسمر لسانه عند هذه الكلمات للحضات، ثم واصل وقد إختنق بعبرته:
- لا تعرف مبلغ السعادة التي غمرت أمي...
وتنحنح محاولاً إعادة الصفاء لصوته المختنق، ثم قال:
- الحقيقة إني تزوجت حديثاً، وكنت بحاجة ماسة الى الجائزة المالية.
أُسقط ما في يد الصديق... فأطرق قليلاً حائراً ماذا يقول... ثم رفع رأسه وتكلم:
- إسمع يا صاحبي... لو كنت أنا في موقف إبراهيم، لما أقدمت على ما أقدم عليه... فمثل هذا الفعل لا يصدر إلا عن رجال عظماء أمثال إبراهيم...!
قال ذلك ثم إنكفأ عائداً الى الملعب، بحثاً عن إبراهيم، ورأسه يزدحم بمشاهد متناقضة:
الحكم رافعاً يد المصارع الآخر... إبراهيم يبتسم... السعادة الطاغية تطفح على وجه المرأة العجوز...
لم يستطع مواصلة التفكير، فانفجر بالبكاء، وهو يقول: إبراهيم... يا لك من إنسان عجيب!