المجاهد الشهيد عبد الحسين برونسي
عنوان هذه الحلقة : يد الغيب
مستلة من كتاب خاكهاى نرم كوشك
كانت الإستعدادات تجري على قدم وساق، لتنفيذ عمليات عسكرية واسعة...
ورغم أن تحركات القوات الإيرانية، تتم بشكل محسوب وبعيد عن الإثارة... إلا أن الجانب البعثي العراقي، كثف من قصفه المدفعي... مما يعني تلقيه معلومات أكيدة عن الإستعدادات الإيرانية....
وبعد منتصف الليل، إشتد القصف مخلفاً شهداء وجرحى.
عبد الحسين الذي كان قد أصيب بذراعه؛ سعى ومنذ دخوله المستشفى الى إقناع الطبيب، بالإسراع بترخيصه.... مؤكداً أن إصابته ليست خطيرة.. بيدأن الطبيب قال بجزم: ما لم أطلع على الصورة الإشعاعية للإصابة، لا يمكن أن أسمح بالترخيص.
وجاءت نتيجة التصوير مخيبة لرغبة عبد الحسين، حيث تبين وجود رصاصة في الذراع.
هذه النتيجة التي وضعها الطبيب أمام عبد الحسين، لم تغير من إصراره على ترك المستشفى...
قال مجادلاً الطبيب: لابد لي أن أعود الى الجبهة... هناك ما يستدعي حضوري...
إبتسم الطبيب، مقدراً حرص عبد الحسين، وشعوره العالي بالمسؤولية، وقال:
يا أخي الكريم... لن تكون بهذه اليد المعطوبة، قادراً على أداء واجبك في الجبهة... سأجري لك عملية غداً... وربما استطعت في ظرف أيام مغادرة المستشفى...
أراد الحاج أن يتكلم... ولكن ماذا يقول... لا يمكنه أن يكشف للطبيب نبأ الإعداد للعمليات العسكرية، وأهمية وجوده هناك.
وفيما انسحب الطبيب بهدوء، راغباً بفض النقاش، لجأ عبد الحسين الى تجربة أسلوبه هو...!
ذلك الأسلوب الذي إعتمده دائماً... لا فرق بين أن يكون عاجزاً والظروف لم تواتيه، أو قادراً والظروف مواتية..!
إنه أسلوب الإنفتاح المباشر على الغني المطلق... مصدر الرحمة والعطاء... ينبوع الخير الثر، والطمأنينة والسلام النفسي.
كانت دموعه تنسكب بغزارة على وسادة النوم، وهو يواصل نجواه الحارة... قبل أن يستسلم للنوم في آخر المطاف.
رآه يسعى نوره بين يديه وهو يدخل عليه الغرفة... فذهل... يا إلهي من هذا... "ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم"... بل هو قمر... قمر منير...
كان القمر يبتسم إبتسامة تملأ النفس بالحبور...
مد يده الكريمة، ليضعها على ذراع عبد الحسين المصابة...
أحس عبد الحسين، وكأن هذه اللمسة قد نفت عن ذراعه جسماً غريباً ضاغطاً...
قال له القمر: قم... لقد شفيت...!
أجاب عبد الحسين، معبراً عن شدة إحترامه وولعه:
- فداك أبي وأمي... إن ذراعي جريحة... أصابتها رصاصة... وقد قال لي الطبيب، إنه سيجري عملية جراحية غداً لإستخراجها.
رد والإبتسامة الوضيئة تملأ وجهه:
- كلا... لا حاجة للعملية... لقد عوفيت...!
إنتبه عبد الحسين الى نفسه، وهو يردد... عوفيت... عوفيت...
لمس ذراعه المصابة، فلم يحس بأدنى ألم... تيقن أنه قد عوفي حقيقة... قفز من الفراش... أجل لقد نال الشفاء على يد القمر...
- قمر... أي قمر...!
وتذكر... يا الله...! كيف نسي... ألم يتوسل الى الله بقمر بني هاشم... بيديه المقطوعتين في سبيل إعلاء كلمة الله...!
تمثلت أمام خياله تلك البسمة المشرقة، فانحدرت دموعه الى المآقي... ثم عاد له إنتباهه، وقال: لابد لي من مغادرة المستشفى..
تذكر أن عليه ملابس المرضى... قال مع نفسه: يجب أن أستعيد ملابسي...
راح يعدو نحو غرفة الممرضين، وهو لا يزال تحت تأثير المفاجأة... وجد الممرض المناوب بين النوم واليقظة.. قال له دون مقدمات: أريد ملابسي...
رد الممرض بنصف وعي: ملابس... أية ملابس...؟
كرر عبد الحسين عبارته ضاغطاً على الحروف...
إستيقظ الممرض تماماً، وقال: أي ملابس تعني؟!
- أريد غادرة المستشفى... أجاب عبد الحسين بإصرار...
تساءل الممرض، وقد راح يقلب الملفات: ألست برونسي؟!
- نعم...
قال وهو ينظر في أحدها...
- إنك على موعد مع عملية جراحية صباحاً... ألم يبلغونك؟!
- لم أعد بحاجة إليها... رد عبد الحسين بشيء من نفاد الصبر...
قال الممرض، وكأنه يقرر حقيقة كونية:
- الطبيب، هو الشخص الوحيد الذي من حقه أن يقول ذلك...!
وبعد أخذ ورد، تم استدعاء الطبيب... الذي أصر على إجراء العملية في موعدها...
قال عبد الحسين: أنا أتحمل المسؤولية كاملة...
قال الطبيب قاطعاً: لا يمكن ذلك أبداً...
عبد الحسين الذي لم يكن راغباً باطلاع أحد على ما حصل له، وجد نفسه مضطراً لإخبار الطبيب... لكن هذا لم يصدق، وراح يؤكد: إنه ما لم يعيد إجراء صورة إشعاعية له، فلن يكون بمقدوره الخروج من المستشفى.
وافق عبد الحسين، شريطة أن تبقى قضيته طي الكتمان..
وظهرت الصورة واضحة تمام الوضوح، إلا أن العجيب أن الرصاصة إختفت تماماً...
كان الظلام دامساً، والجو شديد البرودة.. والعمليات العسكرية التي بدأت منذ يومين، تعاني مشكلة كبيرة في أحد محاورها...
والعجيب أن هذا المحور هو بقيادة عبد الحسين برونسي، ذلك القائد العسكري المتميز بالشجاعة والإندفاع والإخلاص...
والأسوأ من ذلك أن القوة التي يقودها عبد الحسين، قد وقعت في براثن حصار شبه تام...
ولأول مرة يشاهد الحاج كالمغلوب على أمره، لا يعرف ماذا يفعل..
أحس المساعد – الذي جلس بالقرب منه – أن الوقت بدأ بالنفاد... لذا فقد التفت الى عبد الحسين الذي بدا مستغرقاً بالتفكير وقال:
- ماذا نفعل؟
تفوه عبد الحسين وهو ساهم:
- لا أدري...!
خرج المساعد لبعض الوقت، ألقى نظرة هنا وهناك، ثم عاد... تطلع في وجه عبد الحسين، وقال:
- لا يمكن أن يستمر الموقف هكذا... لابد من إتخاذ إجراء ما...
إلتزم الحاج الصمت...
تشاغل المساعد عنه لعدة دقائق، ثم قال بلهجة فيها رنين تحذير:
- إسمع يا حاج برونسي... إنك أنت المسؤول هنا، والتردد باتخاذ الإجراء اللازم، سيعرض حياة الجميع للخطر... ثم أردف:
إن مسؤولية دماء هؤلاء الشباب الأبرياء عليك وحدك...
إحمر وجه عبد الحسين، ثم ما لبث أن إنهمرت دموعه، ورويداً رويدا تعالت نجواه التي كان يرددها همساً...
غادر المساعد المكان ليتيح لصاحبه فرصة الحديث مع ربه... شاعراً بشيء من الهدوء، ذلك أنه خبر صدق عبد الحسين وإخلاصه مرارا...
وهل يمكن أن ينسى ذلك الموقف الصعب الذي واجهاه يوماً.
تنفس الصعداء... لازال المشهد ماثلاً أمام عينيه بتفاصيله...
كانت القوات الإيرانية تزحف لتنفيذ عملية عسكرية مهمة، عندما برز أمامها حقل ألغام...
وشلت المفاجأة الجميع... من أين جاء حقل الألغام هذا...ذلك أن فرق الإستطلاع كانت تجوب هذه المنطقة البارحة...
كان مصير العملية برمتها، متوقف على تجاوز هذه العقبة...
ووقف عبد الحسين أمام الحقل عاجزاً وبكى... ثم رمق السماء بطرفه وراح يستمد ربه العون ودموعه جارية... وأطال الدعاء والبكاء...
ولم يلبث أن اندفع الى الأمام، فوق رؤوس الألغام... فكمم المقاتلون أفواههم ليخنقوا صرخات كادت تنطلق... لكنهم رأوا قائدهم يتقدم ويتقدم وحيداً فاندفعوا خلفه دون أن يصب أحد بأذى...
وهزت المساعد عظمة الذكرى فبكى...
سمع في تلك اللحظة من يناديه... إنه عبد الحسين نفسه...
سارع إليه: نعم يا حاج..!
عبد الحسين الذي إحمرت عيناه من البكاء، قال بلهجة مختلفة:
- آتن في الحال، بعشرة من أمهر رماة القاذفة لدينا...
وذهب المساعد ليعود بعد قليل بالرماة، فاختار عبد الحسين أمهر العشرة، وقال له: هناك هدف أريد منك تدميره، فهل أنت مستعد...
أبدى الرامي إستعداده، فقال له:
إصغ إذن لما أقوله لك بدقة... إنعطف من هنا يمينا خمسة وعشرين متراً، فإذا بلغت تلك النقطة تقدم أربعين متراً في العمق، ثم تصور أن الهدف المقصود أمامك وأطلق رميتك...
ضحك الرامي... وقال ماذا تقول أيها الحاج، وأي هدف يمكن أن يُرى في هذا الظلام...
رد عبد الحسين بنبرة آمرة لم تُعهد منه...
- كما قلت لك، وأردف: يجب أن تصوب بدقة...
ثم التفت، يلقي بتوجيهاته على بقية المقاتلين، قبل أن يأمر الرامي بالإنطلاق نحو الهدف...
وبعد هنيهة... ابتلع الرامي الظلام...
وتناغمت كلمات الضراعة على شفاه المقاتلين مع خفقات قلوبهم التي ازدادت وتيرتها...
وطالت اللحظات كالدهور، قبل أن تندلع النيران ويسمع دوي إنفجار قوي... تبعته صرخات التكبير وانطلاق الهجوم.
سر الرمية المسددة التي، استهدفت مقر قيادة القوات المعادية بالصميم فحولت الهزيمة الى انتصار... هذا السر بقي دفيناً في صدر عبد الحسين...
ولم يظفر إخوان دربه الذين ألحو عليه يوماً وبالغوا في الإلحاح، إلا بكلمات قليلة...:
لم أكن أنا الذي أصدر الأمر العسكري ذاك...
وانسكبت دموعه وتهدج صوته وهو يضيف: رأيت شخصاً غارقاً في لجنة من نور، يأمرني فأطعت...!!