تعتبر آداب التلاوة مجموعة من السلوكيات الظاهرية والروحية التي تُمهّد للعبد طريق الأنس بالقرآن الكريم. فمن النظر إلى القرآن الكريم إلى طهارة المكان والقلب، من الصمت المُهيب إلى سجود الخشوع، فكلها مقدمة لفهم رسالة سبحانه وتعالى.
ليست تلاوة القرآن الكريم مجرد قراءة لكلمات وألحان سماوية، بل هي نوع من التواجد بين يدي الخالق القدير. فالقرآن الكريم نافذة على المعرفة والنقاء والسكينة، وللدخول إلى هذه النافذة، لا بدّ من آداب تُهيئ الإنسان لفهم حقيقة الوحي. وهذه الآداب تكون ظاهرية وباطنية، أي أنها تتعلق بسلوك القارئ وحالته الخارجية، وكذلك بباطنه ونيته.
أولاً:
التلاوة من المصحف الشريف
تتجلى أولى مظاهر آداب التلاوة للقرآن الكريم في القراءة منه؛ حتى لمن حفظه. كما أن النظر في سطور القرآن عبادة ونور. فجاء في حديث مروي عن الإمام جعفر الصادق (ع) حيث يقول:
«قِراءَةُ القُرآنِ فِي المُصحَفِ تُخَفِّفُ العَذابَ عَنِ الوالِدَينِ وَلَو كانا كافِرَينِ». (أصول الكافي ۲/۶۱۳).
وهذا الحديث دليل على عظمة النظر إلى كلام الله بشغف. فالنظر إلى الآيات الإلهية بقصد التقرب إليها لا يقل ثوابًا عن تلاوتها جهرًا. فالعين التي تنظر إلى حروف القرآن تنظر إلى نور الهداية، ويشتعل في قلبها نور المعرفة.
فيما يخص التلاوة من الحفظ، ينغمس الذهن في المعنى أكثر، أما في التلاوة من المصحف، فيشترك البصر واللسان في العبادة. وهذا التناغم بين الحواس يخلق نوعًا من الألفة القلبية مع القرآن الكريم، لا يقتصر أثره على مستوى الذهن فقط.
وكما جاء في فحوى حديث الإمام علي (عليه السلام):
"أنر بصرك بنور القرآن".
إذن يعد إلقاء النظرة المؤمنة إلى المصحف مثال على هذا الحديث الشريف.
فبالإضافة إلى الآثار الفردية، يعود هذا الفعل بالخير على الأسرة والوالدين. وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى نفس النقطة في الرواية المذكورة، وهي أن النور الذي يشرق من نظرة المؤمن على صفحات القرآن الكريم يصل أيضًا إلى من حوله. لذا، فإن القراءة من المصحف عبادة تُلقي بظلالها حتى على الآخرين.
ثانيًا:
مصاحبة القلب للآيات
إن من أهم آداب التلاوة حضور القلب والتفاعل الباطني مع الآيات. فالقارئ الحقيقي لا ينطق بالكلمات فحسب، بل تتغير روحه مع كل آية. فعندما يصل إلى آيات الرحمة والجنة، يخفق قلبه شوقًا ويسأل الله الرحمة، وعندما يصل إلى آيات العذاب، يلجأ إلى عز وجل خاشعًا.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الصدد:
«اِذا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فيها ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَاسْأَلِ اللّهَ الْجَنَّةَ، وَاِذا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فيها ذِكْرُ النّارِ فَتَعَوَّذْ بِاللّهِ مِنَ النّارِ» [بحارالأنوار، ج 92، ص 216.].
تُشير هذه النصيحة إلى أن تلاوة القرآن حوارٌ بين العبد وربه، وليست تلاوةً جافةً خاليةً من المشاعر. كما جاء في سورة الزمر المباركة:
«اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ»".
إن هذا الاقشعرار في القلوب والجلود دليل على اتصال الروح الإنسانية الحي بمعاني الآيات الشريفة.
وهذه التلاوة توقظ القلب من غفلته. بل إن سوء التدبير هي قفل القلب نفسه الذي يتحدث عنه القرآن الكريم في سورة محمد المباركة (ص): «أم على قلوب أقفالها».
تُفتح الأقفال بالتفكر، الدعاء والتأمل. والتلاوة الواعية تُحوّل الإنسان من مستمع إلى مُخاطب مباشر بالوحي، وهذه هي روح التلاوة.
ثالثًا:
الحفاظ على قدسية القرآن
إنّ الأدب الظاهري للقرآن هو مظهرٌ ظاهريٌّ للإيمان القلبي. ولا ينبغي أن يُوضع القرآن في منزلة أدنى من غيره، ولا ينبغي أن يُوضع عليه شيءٌ أبدًا. لأن كلام الله فوق كل قول وكتابة. يقول القرآن:
«ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ» (الحج، 32).
إن تعظيم شعائر الله علامةٌ على تقوى القلوب؛ وأعظم شعيرة هو القرآن نفسه.
في الوقت نفسه، لا ينبغي وضع القرآن على الأرض، فالأرض هي موضع مشى الإنسان. يجب أن يكون موضع القرآن عاليًا ونظيفًا ليُحفظ هيبته. وهذا الاحترام ليس شكليًا، بل محبة وإيمان. وكما يُوضع القرآن في مكانة عالية في بيوت المتقين، ينبغي أن يكون قلب المؤمن أيضًا مأوى ساميا لكلام الله.
من جهة أخرى، في مجالس القرآن الكريم، يجب مراعاة آداب الحضور في جلسات القرآن الكريم. ولا يليق الوقوف والقرآن مفتوح. ومن أراد الوقوف، فعليه أولًا إغلاق المصحف ثم التحرك. وهذا الاحترام نوع من الإجلال لكلام الله، وتذكير بأن الإنسان أثناء تلاوته يقف في "محضر رب العالمين".
الآداب الظاهرية بسيطة في ظاهر الأمر، لكن أثرها في النفس عميق. من يحترم ظاهر القرآن الكريم، يُهيئ قلبه لا شعوريًا لقبول نور الوحي. وهذا التناغم بين الظاهر والباطن يُبقي روح العبودية حية في الإنسان.
رابعا:
الطهارة ومكان تلاوة القرآن
ينبغي تلاوة القرآن الكريم في أماكن توجد فيها الطهارة والسكينة والهدوء والوقار. البيت، المسجد، وأي مكان طاهر يُذكر فيه اسم الله هو أفضل مكان لتلاوة القرآن. أما تلاوة القرآن في الأماكن النجسة أو المواضع المزدحمة فهي منكرة ومكروهة.
كما يقول أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام):
"سَبْعَةٌ لاَيَقْرَءُونَ اَلْقُرْآنَ اَلرَّاكِعُ وَاَلسَّاجِدُ وَفِي اَلْكَنِيفِ وَفِي اَلْحَمَّامِ وَاَلْجُنُبُ وَ اَلنُّفَسَاءُ وَاَلْحَائِضُ". (الخصال، ج 3، ص 357).
وتدل هذه التوصيات على أن تلاوة القرآن لا تتوقف على طهارة الجسم فحسب، بل على طهارة المكان والنية أيضًا.
إن الطهارة شرط للحضور عند الكلام الإلهي. كما يقول عز وجل في سورة الواقعة المباركة: «لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» ".
أي أن المطهرين هم وحدهم من يمسون القرآن. وهذه الطهارة هي طهارة جسدية وروحية، وكذلك غسل الأيدي الأيدي وتطهير النوايا.
ينبغي تلاوة القرآن في جو يخفف فيه هم الدنيا وشغوفها. فعندما يهدأ الجو وتتهيأ النفس، تستقر الآيات في القلب بشكل أفضل. وتصبح هذه البيئة مدخلاً إلى نزول السكينة الإلهية، كما وعد القرآن الكريم:
«الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».
خامسا:
السجود، الطهارة وآداب الحضور عند التلاوة
هناك أربع آيات في القرآن الكريم توجب السجود عند سماعها أو قراءتها:
"الآية ١٥ من سورة السجدة المباركة"، "الآية ٣٧ من سورة فصلت المباركة"، "الآية ٦٢ من سورة النجم المباركة"، و"الآية ١٩ من سورة العلق المباركة". وحين يصل القارئ إلى هذه الآيات، فعليه أن يسجد دون اشتراط ذكر خاص أو طهارة.
وقد علّم الإمام محمد الباقر (ع) ذكرا نورانيا لهذا السجود:
«لا اله الا الله حقاً حقاً، لا اله الا الله ايماناً و تصديقاً، لا اله الا الله عبودية ورقا، سجدت لك يا رب تعبداً ورقاً لا مستنكفاً ولا مستكبراً بل أنا عبدٌ ذليلٌ ضعيفٌ خائفٌ مستجير».
هذا السجود علامة خضوع لعظمة الله سبحانه وتعالى. وفي هذه اللحظة، ينتقل القارئ من مرحلة التلاوة إلى مرحلة الخضوع. وإذا سُمع صوت آية السجدة من جهاز تسجيل أو من شخص لا ينوي التلاوة، فلا يجب السجود، لأن النية هي روح العمل.
سادسا:
آداب الجلوس، والدعاء بعد التلاوة
ينبغي لقارئ القرآن الكريم أن يجلس بأدب أثناء التلاوة، وأن تكون هيئته مهيبة، وأن يمتنع عن الأكل والشرب والتدخين. وكلما احتاج إلى طعام أو راحة، فالأفضل أن يقطع تلاوته مؤقتًا. لأن القرآن كلام الله، ومن الجدير بالإنسان أن يستحضره بكل حواسه.
إن افتتاح التلاوة بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" واختتامها بـ "صدق الله العلي العظيم" هو علامة على الأدب في بدء العبادة وأدائها. والبدء بذكر الله يعني الدخول بذكر الرحمة، والانتهاء بالتأكيد على الحقيقة يعني الخروج بيقين.
يستحب بعد الانتهاء من التلاوة، بالدعاء. كما قال الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام):
"مَن قَرَأ القرآنَ كانَت لَهُ دعوةٌ مُجابةٌ إمّا مُعَجَّلَةً وإمّا مُؤَجَّلةً ".
فالتلاوة تُقرّب القلب إلى الله عز وجل، والدعاء من قلب صادق لن يبقى دون إجابة.
إذا دعا قارئ القرآن بالهداية، المغفرة والسعادة لنفسه وغيره في نهاية تلاوته، فقد طبق في الواقع رسالة الآيات في حياته.
ولا ينبغي أن نتلو القرآن فحسب، بل ينبغي أن نعيش معه أيضًا. هذا هو الجسر الذي يربط بين التلاوة والعمل.