لا شك أن الأزمة الاقتصادية اللبنانية التي بدأت في أغسطس/آب 2019 كانت من أكثر الصفحات إيلامًا في تاريخ البلاد؛ أزمة اتسمت بالانخفاض الحاد في قيمة الليرة اللبنانية. حيث انخفض سعر الدولار الأمريكي الواحد من 1500 ليرة لبنانية، وهو السعر الذي ظل ثابتًا من عام 1997 إلى 2019، وبلغ إلى السعر المذهل 138 ألف ليرة عام 2023.
كان لهذا الحدث تأثير مدمر على حياة الشعب اللبناني؛ فعلى سبيل المثال، بعد اندلاع هذه الأزمة، انكمش الاقتصاد اللبناني، الذي كان يُعرف سابقًا بسويسرا الشرق الأوسط، بنسبة 50%؛ وانهار النظام المصرفي اللبناني مع اندفاع الناس لسحب رؤوس أموالهم، وفي النهاية انهارت الحكومة والخدمات العامة تقريبا.
لم يكن ظهور الكوليرا مجددًا بعد 30 عاما وخسارة هذا العدد الكبير من الأرواح سوى جزء من العواقب المدمرة لانهيار الخدمات العامة في لبنان.
السؤال:
لماذا حدثت هذه الأزمة؟ من كان السبب الرئيسي في هذه الأزمة؟ هل كان الوضع ناتجا عن سوء إدارة داخلية أم أن عوامل خارجية لعبت دورا في تشكيلها؟ ما هو دور الولايات المتحدة في ذلك؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد من العودة قليلا إلى الوراء.
بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، سعت الحكومة الجديدة إلى توفير الموارد المالية اللازمة لإعادة إعمار لبنان من خلال مبادرات نقدية ومصرفية. ولذلك، اعتمدت سياسات من شأنها أن تجعل لبنان وجهة جاذبة لرأس المال الأجنبي. وكان أهم عنصر في هذه السياسات هو استقرار الدولار الأمريكي مقابل الليرة اللبنانية.
في عام ١٩٩٧، أعلن مصرف لبنان المركزي عن سعر صرف الدولار الرسمي عند ١٥٠٠ ليرة، وحافظ على هذا المعدل لعقدين من الزمن من خلال التدخل غير المباشر في السوق، مثل تحديد أسعار فائدة مغرية على العملات الأجنبية وضخ النقد الأجنبي عند الضرورة.
تطلّب استقرار سعر صرف الدولار عند مستوى محدد الوصول إلى كميات هائلة من الدولارات. لذلك، حاول مصرف لبنان المركزي جذب موارد النقد الأجنبي بطرق مختلفة. والطريقة الأولى لجذب الدولارات كانت من خلال رفع سعر الفائدة على الودائع الدولارية بشكل مصطنع.
دفع مصرف لبنان المركزي أسعار فائدة أعلى بكثير من البنوك في أوروبا والشرق الأوسط؛ ونتيجةً لذلك، تدفقت رؤوس أموال أجنبية هائلة إلى لبنان.
وبالطبع، بعد فترة، لم تعد الموارد المجتذبة كافية لسداد أصل الدين والفوائد المتزايدة على القروض المُستلمة، لذا اتخذ مصرف لبنان المركزي إجراء آخر وهو إصدار سندات بالدولار أو اليورو، أو ما يُسمى بسندات اليوروبوند.
إن سندات اليوروبوند هي في الواقع نوع من السندات التي قدمتها الحكومة اللبنانية مباشرةً إلى البنوك والمؤسسات المالية والأفراد والكيانات القانونية الأخرى في الخارج، وكانت أسعار فائدتها بالدولار أعلى بكثير من أسعار الفائدة على السندات الأخرى في المنطقة والعالم.
نتيجةً لهذه السياسات، نشأت حلقة مفرغة من تراكم الديون؛ ما دفع الحكومة إلى اقتراض المزيد من الأموال على شكل ودائع أو سندات يوروبوند لسداد أصل الدين وفروعه من الالتزامات السابقة. وبعد فترة، اقترضت المزيد من الأموال على هذا الشكل لسداد قروض جديدة، واستمرت هذه الحلقة حتى أصبحت الحكومة اللبنانية مُفلسة، تكبر شيئا فشيئا ككرة ثلج.
أخيرًا، عجز مصرف لبنان المركزي في عام 2019 عن سداد التزاماته السابقة نتيجة لعدة عوامل، منها جائحة كوفيد-١٩، تراجع عائدات السياحة اللبنانية، وتراجع تحويلات اللبنانيين في الخارج، مما أدى في النهاية إلى اشتعال فتيل الأزمة.
السؤال:
كيف استطاع لبنان، الذي لا يزال يستورد جزءا كبيرا من احتياجاته من الخارج، والذي كان متخلفا في قطاعي الصناعة والزراعة، وكان إنفاقه الحكومي دائما أعلى من إيراداته، أن يتحلى بالشجاعة لتحديد أسعار فائدة استثنائية كهذه؟.
أو، والأهم من ذلك، لماذا تبنى المسؤولون الحكوميون اللبنانيون والمستثمرون الأجانب، رغم إدراكهم لهذه التوقعات الاقتصادية القاتمة، هذه المبادرات الاقتصادية الخطيرة والمحفوفة بالمخاطر؟.
الجواب المختصر على هذا السؤال هو أن كلا الجانبين وثق بمؤسسة دولية أشادت، بالسياسات الاقتصادية الجريئة للبنان؛ هذه المؤسسة هي صندوق النقد الدولي أوIMF.
دعم صندوق النقد الدولي بشكل غامض جميع السياسات الاقتصادية اللبنانية التي أدت في النهاية إلى أزمة عام 2019.
على سبيل المثال، وخلافًا لجميع النصائح التي قدمها صندوق النقد الدولي لدول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لتحرير أسعار صرف عملاتها، دعم بشكل استثنائي تدخلات مصرف لبنان المركزي لتحديد السعر الإلزامي للدولار.
بالإضافة إلى ذلك، أشاد صندوق النقد الدولي بالنظام المصرفي اللبناني المعيب والمضارب باعتباره ركيزة أساسية لمرونة لبنان.
بالإضافة إلى ذلك، اعتبر صندوق النقد الدولي إصدار المزيد من سندات اليوروبوند خطوة إيجابية، في حين قوبلت إجراءات دول العالم الثالث الأخرى بردود فعل قوية من الصندوق، حتى أنه قام بتعليق القروض المتفق عليها.
بالطبع، لم تنتهِ أنشطة صندوق النقد الدولي الغامضة قبيل الأزمة؛ فبعد اندلاع أزمة عام ٢٠١٩، بدأت مفاوضات مكثفة بين لبنان والصندوق. وكانت مقترحات الصندوق متوقعة إلى حد كبير:
كان المقترح الأول هو خفض الإنفاق الحكومي بسرعة، وهو ما يعني عادةً تسريح الموظفين وتقليص الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين، ويؤدي بالأساس إلى تدهور الظروف المعيشية للمواطنين
كان الاقتراح الثاني هو الخصخصة السريعة، وهي سياسة أخرى يصرّ عليها الصندوق، ويُوصى بها في وقت لا تُعاني فيه الصناعات المملوكة للدولة في لبنان من خسائر فحسب، بل تُشكّل أيضاً ثاني أكبر مصدر لإيرادات الحكومة بعد ضريبة القيمة المضافة.
كانت زيادة أسعار الكهرباء والوقود أيضًا أحد أهم طلبات الصندوق؛ وقد قُدِّمت هذه التوصية أيضًا في حالة كان فيها سعر الكهرباء والوقود مرتفعًا حتى قبل الأزمة. ويبدو أن الهدف الوحيد لهذه السياسة التي أملاها الصندوق هو تدهور وضع الإنتاج والمعيشة في لبنان.
وكان التركيز على تعزيز سيادة لبنان أيضا أحد أهم السياسات التي أملاها صندوق النقد الدولي على لبنان؛ ومن بين البرامج التي يسعى صندوق النقد الدولي بقوة تحت ستار تعزيز السيادة الوطنية في لبنان احتكار الأسلحة في أيدي القوات الحكومية ونزع سلاح الجهات الفاعلة غير الحكومية، وخاصة حزب الله.
تُقترَح هذه البرامج المزعومة لتعزيز السيادة بينما في العديد من الأحداث مثل طوفان الأقصى، عندما قام الجيش اللبناني وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بإخلاء الميدان أمام قوات الاحتلال التابعة للكيان الصهيوني، كان حزب الله اللبناني هو الذي وقف وحيدا في وجه قوات الاحتلال ودافع عن سلامة أراضي لبنان وسيادته.
لذلك، فبالإضافة إلى قيادة لبنان عمدا نحو هذه الأزمة على مدى العقدين الماضيين، فإن توصيات صندوق النقد الدولي الجديدة، بدلاً من أن تكون بمثابة خطة لخروج لبنان من الأزمة، أصبحت الآن جهدا واعيا من قبل المسؤولين في واشنطن، بروكسل وحتى تل أبيب للضغط على الشعب اللبناني وجعل الحياة صعبة عليه للتخلي عن فكرة المقاومة ضد الكيان المحتل؛ وهي خطوة تتماشى مع استكمال القطعة الاقتصادية من لغز القضاء على المقاومة في لبنان وتأمين مصالح الكيان الصهيوني.