إن عدوان الكيان الصهيوني المحتل وهجومه العلني على البنية التحتية الرئيسية والمناطق المدنية في جمهورية إيران الإسلامية في الأيام الأخيرة لم يُبرز مرة أخرى خطر اندلاع مواجهة إقليمية شاملة فحسب، بل أثار أيضا تساؤلات جوهرية حول كيفية تغير طبيعة الحروب في عصر التكنولوجيا.
إن طبيعة هذا العمل العسكري العدواني، الذي يعتمد على الاستخدام المتزامن ل للطائرات الهجومية المسيرة، الأسلحة الموجهة، الحرب السيبرانية وأنظمة الاستطلاع والاستهداف المتقدمة، تُمثل مثالا واضحا على التحول من الحروب التقليدية إلى الحروب الهجينة والتكنولوجية. وقد تناولت بعض وسائل الإعلام الغربية البارزة، بما في ذلك يورونيوز وريجستر، هذه القضية في تقاريرها.
ففي مثل هذه المعركة، يمكن أن تكون المزايا التكنولوجية حاسمة بقدر أهمية المعدات والقوى العاملة. ولا شك أن جمهورية إيران الإسلامية، كدولة ذات تاريخ دفاعي عريق وبنية عسكرية متعددة المستويات، تمتلك الآن القدرة الاستراتيجية ليس فقط على تعزيز فعالية أنظمتها الدفاعية وقدرتها على الردع باستخدام التقنيات الجديدة، بل أيضا على كشف مدى توافق هذه القدرة مع أنماط الحرب الجديدة، بما في ذلك حرب الطائرات المسيرة، الحرب السيبرانية، وحرب المعلومات.
يهدف هذا المقال الموجز إلى توفير أساس تحليلي لفهم طبيعة وعواقب واتجاهات المواجهة الأخيرة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني المحتل للقدس؛ وهو صراع معقد قد يُمثل نقطة تحول في تاريخ الحروب التكنولوجية الإقليمية والعالمية.
قدرة إيران على استخدام التقنيات العسكرية
وفقًا لمجموعة واسعة من الخبراء العسكريين الغربيين، لطالما لعبت الجمهورية الإسلامية الإيرانية دورًا رادعًا في مواجهة التهديدات الإقليمية والعابرة للحدود، معتمدةً على قوتها البشرية الواسعة، وترسانتها الصاروخية المتنوعة، وأنظمة الدفاع الجوي المحلية، وخبراتها القيّمة في الحروب التقليدية وغير المتكافئة.
ويتفق معظم الخبراء العسكريين على أن البنية الدفاعية الإيرانية متعددة الطبقات والمرنة جاهزة للتعامل مع مجموعة واسعة من التهديدات، من الهجمات الإلكترونية إلى العمليات الجوية واسعة النطاق.
من ناحية أخرى، لا يمكن إنكار القوة العسكرية للعدو. والحقيقة هي أن الكيان الصهيوني قد بنى استراتيجيته العسكرية على التقنيات المتقدمة والتفوق المعلوماتي. وبفضل الدعم التقني والتسليحي من الولايات المتحدة وبعض القوى الغربية، أصبح هذا الكيان من أكثر الجيوش تقدمًا في المنطقة. وقد رفعت أنظمة الدفاع الصاروخي مثل القبة الحديدية، مقلاع داوود وبيكان، طائرات الجيل الخامس "إف-35"، أنظمة الحرب الإلكترونية، والطائرات المسيرة المجهزة بالذكاء الاصطناعي، القدرة العملياتية لهذا الكيان إلى مستوى عالٍ.
ومع ذلك، تشير التقارير التي نشرتها العديد من وسائل الإعلام الغربية إلى أن إيران، التي تمتلك أحد أكبر أساطيل الصواريخ في منطقة غرب آسيا، بما في ذلك الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، صواريخ كروز، والصواريخ الأسرع من الصوت، قد أثبتت في عملية "الوعد الصادق 3" أنها قادرة على استهداف العمق الاستراتيجي لكيان الاحتلال الصهيوني وحلفائه في أي لحظة. وهذه القدرة الصاروخية، ومعظمها محلي الصنع وطُوّر في ظل العقوبات، مُصممة لاختراق أنظمة الدفاع بدقة اختراق عالية، ولتكون بمثابة رادع.
لا يقتصر التفوق العددي لإيران على مجال الصواريخ؛ ففي مجال القوات البرية، تستطيع إيران أيضًا تغطية الميدان بقوة كبيرة إذا امتدت المعركة إلى البر. هذا في حين أن إسرائيل، وإن كانت متقدمة نظريًا في جودة أسلحتها، تعتمد بشكل أكبر على الدعم الخارجي من حيث القدرات البشرية واللوجستية.
ونتيجة لذلك، فإن المواجهة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والعدو الصهيوني، وليست معركة تكنولوجية أو كلاسيكية بحتة، تُمثل تقاطع نموذجين مختلفين من نماذج الردع العسكري.
تفوق المسيرات الإيرانية بالاعتماد على القدرات المحلية
وفقًا لتقرير نشره موقع يورونيوز الإخباري في 13 يونيو/حزيران، تزامنًا مع بداية الصراعات، تمكنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية من اكتساب مكانة استراتيجية بين القوى الإقليمية، بل وحتى العالمية، في السنوات الأخيرة من خلال الاستثمار المُستهدف والمستمر في مجال تكنولوجيا الطائرات بدون طيار. ولا يقتصر هذا التقدم على تلبية الاحتياجات الدفاعية الناجمة عن ظروف العقوبات والتهديدات المستمرة، بل يعكس أيضًا تخطيطًا طويل الأمد لتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي في المجال العسكري.
يعتقد جيراردو فورتونا، كاتب هذا التقرير في يورونيوز، أن الطائرات الإيرانية المسيرة تغطي الآن نطاقًا واسعًا من القدرات، بدءًا من طائرات الاستطلاع بعيدة المدى وصولًا إلى الطائرات الانتحارية المسيرة مثل (شاهد-136) والطائرات القتالية المسيرة المتطورة مثل (كَمان وفطرس) القادرة على تنفيذ عمليات دقيقة ومحددة الهدف. وقد أثبتت هذه الطائرات المسيرة فعاليتها بالفعل.
كما تمكنت جمهورية إيران الإسلامية من استخدام تقنيات جديدة في مجال الحرب الإلكترونية من خلال الطائرات المسيرة، بما في ذلك تعطيل أنظمة اتصالات العدو واعتراضها.
بالإضافة إلى البعد العسكري، فإن لهذا التفوق في الطائرات المسيرة أيضًا عواقب جيوسياسية مهمة. فمن خلال إنشاء رادع متعدد المستويات، لا تمنع إيران أعداءها الإقليميين من اتخاذ إجراءات مباشرة فحسب، بل إنها أيضًا خلقت نوعًا من التوازن الاستراتيجي في نظام الأمن الإقليمي. وأجبر هذا الوضع العديد من الدول، سواءً في الخليج الفارسي أو في غرب آسيا، على مراعاة الطائرات المسيرة الإيرانية في حساباتها الأمنية.
معركة التكنولوجيا في الميدان
هاجمت أكثر من 200 طائرة مقاتلة تابعة للكيان الصهيوني مواقع في إيران في الليلة الأولى لغزو الكيان للأراضي الإيرانية، إلا أن رد إيران السريع، بإطلاق عدد كبير من الطائرات المسيرة والصواريخ باتجاه الأراضي المحتلة، أظهر أنه على الرغم من بعض الأضرار، لا تزال البنية الدفاعية للبلاد وقدرتها على الاستجابة فاعلة، وكانت الرسالة الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية واضحة:
"نحافظ على قدرتنا على الرد، وقادرون على الرد المناسب والفعال إذا استمر العدوان".
تفوق معلوماتي أم ثغرة استراتيجية؟
استثمر الكيان الصهيوني بشكل مكثف في الذكاء الاصطناعي، التعلم الآلي، والتحليل التنبؤي لسلوك العدو، والذي إلى جانب شبكة من طائرات الاستطلاع المسيرة، يسعى عمليًا إلى بناء "عين أمنية" قادرة على تحديد الحركات وصدّها قبل أن تتحول إلى عمل.
لكن هذا الاعتماد الواسع على الأدوات التكنولوجية، وخاصة في المعارك ذات الخصائص غير المتكافئة والمعقدة، يمكن أن يصبح أيضًا نقطة ضعف خطيرة. حيث لا تُخاض حروب اليوم في ساحة المعركة المادية فحسب، بل تُخاض أيضًا بطريقة متعددة الطبقات، بما في ذلك نشر المعلومات المضللة، اختراق أنظمة البرمجيات، خداع الرادار، والهجمات النفسية. وفي مثل هذه الظروف، يمكن أن يؤدي التركيز المفرط على البيانات والخوارزميات، دون فهم الميدان الحقيقي والمرونة التشغيلية، إلى اتخاذ قرارات غير صحيحة ومكلفة.
في المقابل، قدمت إيران، بهيكل قتالي مشترك يتكون من قوات الجيش وحرس الثورة الإيرانية، وأنظمة الدفاع الجوي، ووحدات الحرب السيبرانية، وما إلى ذلك، نموذجًا للردع السريع وغير الخطي. وهذا الهيكل قادر على تصميم عمليات غير متوقعة ومتعددة الأغراض ومشتركة ضد عدم القدرة على التنبؤ بالعدو؛ عمليات يمكن أن توسع نطاق واتجاه الاستجابات من جنوب لبنان إلى بحر عمان، ومن الأراضي العراقية إلى أعماق فلسطين المحتلة.
وفي هذه المواجهة، ما سيكون حاسما ليس فقط حجم المعلومات أو قوة المعالجة، ولكن أيضًا الفهم الحقيقي للميدان، والقدرة على المناورة التكتيكية، والقدرة على الاستجابة بذكاء للتغيرات السريعة في ساحة المعركة؛ المزايا التي اكتسبها الهيكل الدفاعي للجمهورية الإسلامية الإيرانية عبر عقود من الخبرة القتالية المشتركة والضغط المستمر.
الكلمة الختامية
إن المعركة بين مجاهدي جمهورية إيران الإسلامية الدؤوبين والمحتلين الصهاينة ليست مجرد معركة بين قوتين عسكريتين، بل هي ساحة مواجهة بين منطقين أمنيين وتكنولوجيين؛ وفي غضون ذلك، فإن ما سيكون حاسمًا ليس الأدوات التكنولوجية فحسب، بل عوامل مثل الإرادة السياسية، التماسك الداخلي، القدرة على الصمود الاجتماعي، والقدرة على تعبئة الموارد الوطنية للرد على التهديدات المعقدة ومتعددة الأبعاد. وقد أثبتت تجربة إيران في التغلب على العقوبات، ضغوط المعلومات، الاغتيالات، والحروب المشتركة أن هذا البلد لديه القدرة على تحويل التهديدات إلى فرص وتعزيز الاعتماد على الذات.
كما أنه في ساحة المعركة الحديثة، لا يعني الوجود الفعال، الهيمنة في لحظة الصراع فحسب، بل يشمل أيضًا القدرة على إعادة البناء، استعادة القوة، مواصلة الاستجابة، والحفاظ على الشرعية المحلية والإقليمية. ولقد وصلت جمهورية إيران الإسلامية، من خلال استثمارها المتواصل في أنظمة الدفاع المحلية، الصناعات العسكرية القائمة على المعرفة، وبنية قتالية هجينة، إلى مستوى ردع أجبر الخصوم المحتملين على إعادة النظر في استراتيجياتهم الهجومية.
وفي عالم أصبحت فيه التكنولوجيا عاملاً حاسماً في مصير المعارك، يتعين على الجمهورية الإسلامية الإيرانية تطوير قدراتها السيبرانية، أسلحة ذكية، أنظمة دفاعية متعددة الطبقات، وخاصةً الردع الذكي في مجال المعلومات والرأي العام، بالتزامن مع تعزيز قوتها العسكرية التقليدية. وهذا يتطلب تعزيز التواصل بين المؤسسات الأمنية والجامعات والصناعات المحلية المتقدمة.
في نهاية المطاف، إن ما يهم في ساحة المعركة اليوم وغداً ليس مجرد إطلاق النار، بل أيضاً القدرة على البقاء، مرونة الاستجابة، والتأثير الاستراتيجي على المديين المتوسط والطويل؛ وهي عناصر، إذا ما اقترنت بالحوكمة التكنولوجية في مجال الدفاع والدبلوماسية الإقليمية، فإنها ستعزز مكانة الجمهورية الإسلامية الإيرانية كلاعب لا غنى عنه في معادلات المستقبل.