فتح خطاب السيد حسن نصر الله الأخير شهية الليبراليين العرب لفتح جبهاتهم "السلمية – الديمقراطية" الحريصة على كل الأوطان، ما عدا وطنهم. رأى بعضهم أن حديث سماحته عن احتمال اجتياح الجليل في أي حرب مقبلة، وأن المعركة ستكون من دون ضوابط أو سقوف، يعطي مبرراً للعدو لشن حرب واسعة على لبنان.
آخرون تصدوا للدفاع عن قبرص، ووجدوا أن تهديد السيد حسن نصر الله يرفع التوتر ويؤثّر في العلاقات العربية القبرصية، والتي لم يذكروا لنا أهميتها. بعض هؤلاء الليبراليين توجّه في افكاره جنوباً نحو غزّة، وصب جام إنسانيته على المقاومة التي ورطت المنطقة في حرب بلا طائل، وحمّلتها مسؤولية المجازر التي يرتكبها العدو. وتساءل أحدهم في منطقية تثير السخرية: ماذا تنتظر عندما تتحرش بوحش كاسر؟
في العادة، يثير كلام هؤلاء الغضب، ويستدعي قاموساً من الاتهامات نطلقها بحقهم، لكنه في هذه المرة يثير الشفقة، فهو لا يعبّر إلا عن مرارة الهزيمة التي لحقت بهؤلاء، فطيّرت صوابهم وأفقدتهم بوصلة الحد الأدنى من الوطنية التي يدّعونها.
بالنسبة إلينا، لا يكفي الوقوف عند الجمل والكلمات الحادة والواضحة، والتي استخدمها السيد نصر الله، فكل كلمة أو جملة لها دلالات أهم كثيراً من وضعها في سياق التهديد أو التصعيد.
في الجو العام، جاء خطاب سماحته بعد بث الفيديوهات والصور التي التقطتها مسيّرات المقاومة لمواقع مهمة داخل فلسطين المحتلة، وهي معلومات استخبارية تبقى في العادة طي الكتمان.
في رأي كثيرين من المحللين أن بث هذه الصور يحمل تهديداً مبطَّناً للعدو عن الأهداف التي يمكن أن يستهدفها الحزب في أي حرب مقبلة، وأن الهدف الرئيس منها هو ردع هذا العدو عن الذهاب إلى مغامرة الحرب.
هذا الرأي، على رغم ما يحمله من صحة، فإنه يعجز عن رؤية الصورة كاملة. الحرب التي يخوضها الحزب اليوم تجاوزت دورها في إسناد جبهة المقاومة في غزّة، لترسم ملامح توازن قوى جديد في المنطقة. ما أنجزته معركة "طوفان الأقصى"، في الصعد العسكرية والاقتصادية والنفسية، لا يجب أن يزول بتوقف إطلاق النار في غزّة. الحديث عن العودة إلى ما قبل الـ7 من أكتوبر محصور في الوضع الإنساني في غزّة، أما قواعد الاشتباك فتباينت جذرياً.
تاريخياً، كانت المقاومة في حالة صمود أو دفاع عن النفس في مواجهة عدو يتفوق عليها عسكرياً واستخبارياً. اليوم، تعيد المقاومة ترتيب الوضع الاستراتيجي في المنطقة، لتقول إنها أصبحت تضاهي العدو في هذه المجالات، وتتفوق عليه بجنودها وجمهورها المؤمنين بعدالة قضيتهم، المستعدين للشهادة في سبيلها، في مقابل جمهور يسعى للهرب إلى المطارات في اللحظة التي يشعر فيها بالتهديد. هذه الرسالة أوصلتها صور المسيرات، ودعمها خطاب السيد بوضوحه وحدته، والذي وصفته وسائل إعلام العدو بأنه أخطر خطاب للسيد نصر الله.
هذه الرسالة ليست موجهة إلى الكيان الصهيوني وحده، فلقد تعلمنا يوم الـ7 من أكتوبر أن هذا الكيان غير قادر على الصمود بمفرده، وأن أي حرب حقيقية سوف تستدعي كل القوى الاستعمارية لدعمه.
قبرص، التي أنذرها سماحته، ليست بعيدة عن هذا السيناريو. بالإضافة إلى الفيديوهات التي عرضها العدو عام 2022 عن مناورة تدريبية قام بها جيشه في قبرص، بهدف الاستعداد لعملية عسكرية ضد حزب الله في لبنان، فإن قبرص تضم قاعدتين عسكريتين بريطانيتين، إذ تُعَدّ قاعدة "أكروتيري"، التي أُنشئت عام 1960، في جنوبي قبرص، من أهم القواعد البريطانية في المنطقة.
واستخدمت بريطانيا هذه القاعدة في قصف العراق وسوريا وليبيا، ومؤخراً في قصف اليمن، كما تُعَدّ هذه القاعدة منطلقاً لطائرات التجسس البريطانية، التي تقوم بمهمّات استخبارية فوق لبنان وسوريا، ومؤخراً فوق غزّة، إذ قامت منذ بداية عملية طوفان الأقصى بأكثر من 70 طلعة جوية، وزوّدت العدو بمعلومات استخبارية استخدمها في عملياته، وآخرها مجزرة مخيم النصيرات. هذا ما أكده رئيس مجلس السلام القبرصي، تاسيوس كوستيلس، عبر قوله إن "هناك أدلة على أن طائرات التجسس، التي تعمل في غزّة، كانت تنطلق من قاعدة أكروتيري".
يقع الحديث عن احتمال دخول شمالي فلسطين المحتلة، وتحديداً الجليل، في صلب استراتيجية المقاومة بعد معركة "طوفان الأقصى".
كل الحروب الماضية خاضتها "إسرائيل" على أراضي خصومها، فكانت خسائرها محصورة في الخسائر العسكرية، واحتمال الخسارة الجغرافية منعدم تقريباً.
أهم تغيير في استراتيجية المقاومة هو الانتقال إلى فكرة التحرير، هذا لن يتم إلا باختراق خطوط العدو والقتال في الأراضي الفلسطينية التي يحتلها. الحديث ليس عن تحرير فلسطين بالكامل، لكن تحرير أجزاء من فلسطين أصبح هدفاً معقولاً يمكن طرحه من دون أن نخشى الاتهام بالمغامرة أو الوهم.
هل نتجرأ على تهديد حلف الناتو؟ نعم، بل نتجرأ على مهاجمة سفنه في البحر الأحمر وبحر العرب، وتعلن الملايين من صنعاء، كل يوم جمعة، تأييدها عمليات الجيش اليمني، وتطالبه بالاستمرار. ونتجرأ أيضاً على مهاجمة قواعد الناتو في سوريا والعراق. نتجرأ على مقاطعة منتوجات الغرب، ورفع علم فلسطين والهتاف للمقاومة في عقر دار الغرب.
ما زال الليبراليون العرب يعيشون في ماضٍ أصبح سحيقاً بفضل إنجازات المقاومة، وما زالوا يعتقدون أن لغة هذا الماضي كفيلة بترويعنا من قوة سادتهم، أو إحراجنا بمضامينها الإنسانية – الديمقراطية التي نرى الشواهد عليها، كل يوم، في شوارع غزّة. نعذرهم لأن لغة النصر صعبة عليهم، فهم لا يتقنون مفرداتها، ولا يستسيغون لحنها، ولن يقدروا يوماً على فهم مضامينها.