درجت العادة على عقد مقارنة "ظالمة" بين وفيات الأطفال في الدول النامية، ومثيلاتها في الدول المتقدّمة، بحيث أصبح الوصول إلى معدلات وفيات الأطفال في الدول المتقدّمة هدفاً تسعى إليه الدول النامية لتثبت أنها تسير على الطريق الصحيح في تطوير مجتمعاتها.
في أحيان أخرى ولتجنّب إظهار الفجوة الواسعة بين طرفي العالم تلجأ المؤسسات الدولية إلى أرقام إجمالية مشفوعة بالنسب المئوية لتدلل على فعالية برامجها في حماية الأطفال، وغالباً ما يترافق ذلك بأرقام تتعلّق بالنساء على قاعدة أن هاتين الفئتين هما الأكثر هشاشة في المجتمعات.
على هذا المنوال نسج تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2022، يعتمد على نتائج دراسة قام بها فريق الأمم المتحدة المشترك بين الوكالات (UN IGME) ليبشّرنا بأنّ معدل وفيات الأطفال قد انخفض بنسبة 51% مقارنة بعام 2000، حيث بلغ عدد وفيات الأطفال 4.9 ملايين طفل سنوياً، بمعدل طفل واحد يتوفى كل أربع ثوان. ويستنتج التقرير أن هذا الانخفاض يعود إلى تحسّن الخدمات الصحية المقدّمة للأمهات والأطفال، وارتفاع الوعي داخل المجتمعات، وهي برامج يشرف على معظمها ويموّلها البنك الدولي. هنا ينتهي الخبر المتفائل وقد نجد إحدى دولنا المشمولة بالتقرير تقيم احتفالاً وطنياً بإنجازها المميّز.
ما يغيب عن هذا التقرير ومثيلاته من التقارير، وفيات الأطفال لأسباب غير طبيعية، تخطط لها وتموّلها الدول نفسها التي تموّل برامج الأمم المتحدة لرعاية الطفولة.
بحسب منظمة اليونسيف فإن عدد ضحايا العدوان السعودي على اليمن من الأطفال بلغ 8116 طفلاً خلال ثماني سنوات، أما في العراق الذي خسر 1.3 مليون شخص نتيجة الغزو الأميركي، منها 87% لأسباب عنيفة، ومن هؤلاء 20% من الأطفال، أي 173 ألف وفاة بين الأطفال بسبب العنف. هذه الأرقام لا تشمل الضحايا من الأطفال الذين توفوا نتيجة سنوات الحصار الطويلة على العراق قبل الحرب.
في سوريا بلغ عدد الشهداء من الأطفال بسبب العنف 22114 طفلاً وذلك حتى نهاية عام 2022، وفي فلسطين قبل العدوان على غزّة بلغ عدد الضحايا من الأطفال 2270 شهيداً. وأخيراً تحمل لنا التقارير المتعلّقة بالمجزرة الصهيونية التي يرتكبها العدو في غزّة أرقاماً تبرز مدى استهتار العالم الغربي بحياة الأطفال في بقية أنحاء العالم. خلال 150 يوماً بلغ عدد الشهداء من الأطفال 13430 طفلاً، وعدد المفقودين تحت أنقاض المنازل نحو خمسة آلاف طفل.
مجموع الأطفال العرب الذين استشهدوا نتيجة العنف المباشر في أربع دول بلغ نحو 250 ألف طفل، آخذين بعين الاعتبار أن الإحصائيات حول الشهداء نتيجة غزو ليبيا، أو من فقدوا حياتهم نتيجة الحصار على سوريا، وقطاع غزة وليبيا والعراق غير متوفّرة، ويتم دمج هؤلاء الشهداء في تقارير وفيات الأطفال لأسباب طبيعية.
إذا توقّفنا عند أسباب الوفيات الطبيعية وعقدنا مقارنة بسيطة بين نسبة الأطباء لكل ألف مواطن بين الدول المستعمِرة، وتلك التي كانت تحتلها، فإن الإجابة قد توضح لنا مدى طبيعية تلك الوفيات؛ في اليمن والسودان تبلغ النسبة 0.1 طبيب لكل ألف مواطن، مقابل 3.2 أطباء لكلّ ألف مواطن في بريطانيا التي كانت تستعمرهما، أما في تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى فتبلغ النسبة 0.1 طبيب لكل ألف مواطن وترتفع إلى 0.4 في الكونغو ونيجيريا، مقابل 3.3 أطباء لكل ألف مواطن في فرنسا التي كانت تستعمر هذه الدول.
تشير أرقام البنك الدولي إلى أنه من بين أكثر عشر دول إنفاقاً على الصحة في العالم توجد ثماني دول غربية ودولة واحدة من آسيا هي اليابان، ودولة من أميركا الجنوبية هي المكسيك، في حين تحتل دول جنوب الصحراء الأفريقية واليمن ودول من آسيا المراكز العشرين الأخيرة. هذه الفجوة أوضحها رئيس مجموعة البنك الدولي، الدكتور جيم يونغ كيم، في تعليقه على تقرير للأمم المتحدة، حيث قال: "إن التقرير يوضح أننا إن كنا جادّين، علينا ألا نكتفي بتحسين النواتج الصحية فحسب، إنما نتعدّاها إلى وضع نهاية للفقر، فيجب علينا أن نعجّل بزيادة ما نبذله من جهود في سبيل تحقيق التغطية الصحية الشاملة." أين تذهب ثروات دول الجنوب؟
إن نيجيريا التي تنتج 2.7% من النفط العالمي وما زالت تعاني في مجال الخدمات الصحية، لأن معظم عائدات النفط تذهب إلى الشركات الغربية الاحتكارية، في حين يضرب الفقر والبطالة والإرهاب عمق المجتمع النيجيري.
كلّ الأطفال الذين يموتون بسبب نهب ثروات بلادهم من قوى الاستعمار تعتبر التقارير الدولية وفاتهم ناتجة عن أسباب طبيعية. وهي محقّة في ذلك استناداً إلى الأفكار المؤسسة لهذه الهيئات، وهي في مجملها أفكار رأسمالية استعمارية مسخّرة لخدمة مراكز رأس المال العالمي وتنظر إلى الفقراء كبشر زائدين عن الحاجة.
عندما تقرأ تقارير الأمم المتحدة، وتسمع تصريحات قادة الدول الاستعمارية التي تستخف بحياة الأطفال وتكتفي بالدعوات الصالحات والنصائح الرقيقة لتجنّب قتل المزيد منهم، لا يمكنك إلا أن تتخيّل روح توماس مالتوس تحوم حولهم وتوحي لهم بخوض المزيد من الحروب وارتكاب المزيد من المجازر لتشكيل موانع "إيجابية" أمام تكاثر السكان.
الموت واحد، سواء كان الميت كبيراً أم صغيراً، والجريمة واحدة سواء كانت برصاص المدافع أم بنهب الثروات، أم بالعقوبات الاقتصادية والحصار، والمجرم واحد نراه يومياً على الشاشات ومواقع التواصل. يبقى السؤال هل نستمر بالبكاء على انعدام العدالة، ومناشدة القاتل الرأفة بالمقتول؟ لقد انطلق شباب من بيننا وقرّروا أخذ الأمور بأيديهم وانتزاع حقوق شعوبهم، من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، وكلّ يوم يمضي يحمل المزيد من التضحيات في هذا السبيل، ألم يحن الوقت لنسأل أنفسنا ماذا فعلنا اليوم لدعمهم؟
عماد الحطبة - موقع الميادين