نواصل حديثنا عن الادعية المباركة ومنها الدعاء الموسوم بـ"يستشير" وهو الدعاء الذي علمه النبي(ص) الامام علياً عليه السلام واوصاه بقراءته طيلة الحياة وقد حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه ونحدثك الان عن مقطع جديد هو قوله(ص): (انت يا رب موضع كل شكوى، وحاضر كل ملاء وشاهد كل نجوى)، هذا المقطع الجديد من الدعاء يتناول شريحة اخرى من اقسام الدعاء الملفتة للنظر حيث ان كل مقطع من الدعاء يختص بدلالات وصياغات فائقة حيث لاحظنا مثلاً ان مقطعاً يرد هذه الظواهر المتتابعة واحدة بعد الاخرى لم تكن سماء مبنية ولا ارض مدحية ولا شمس مضيئة ولا ليل مظلم ولا نهار مضيء، ثم يواجهك مقطع بهذا التتابع الاخر اغنيت وافقرت امت واحييت اضحكت وابكيت ثم يواجهك مقطع بهذا التتابع امرك غالب علمك نافذ كيدك غريب، وعدك صادق، قولك حق، حكمك عدل، ثم يواجهنا مقطع نتحدث عنه الان وهو ما قدمناه قبل قليل ان ما نستهدف الاشارة اليه هو بغض النظر عن جمالية الدعاء من حيث مقاطعه المتتابعة وتنويعاتها المتفاوتة والمتجانسة في آن واحد، بغض النظر عن ذلك فان المطلوب هو ملاحظة الدلالات في الدعاء وهذا ما نبدأ بتوضيحها.
تقول العبارة الاولى "انت يا رب موضع كل شكوى" طبيعياً هذه العبارة وامثلتها تكرر في الادعية المتنوعة حيث تتسم بوضوحها والفتها ولكن المطلوب هو ملاحظتها بدقة وبتأمل حيث ان ما هو واضح ومألوف في الادعية هو في واقعه عميق ونادر من حيث الوعي بنكاته وطرافته والبعد المعرفي فيه. ولنقف مثلاً عند العبارة المتقدمة القائلة بان الله تعالى هو موضع كل شكوى.
صحيح ان القارئ للدعاء طالما يتجه الى الله تعالى فيشكو اليه شدائد الحياة ولكن الشكوى ذاتها والجهة المتجهة اليها والنتيجة المترتبة عليها ليست بالبساطة التي نتصورها، كيف ذلك؟ اولاً، الشكوى ذاتها ليست بنحوها المطلق موضع قبول او مشروعية حيث ان النصوص الشرعية طالما تشير الى ان المؤمن حقاً هو من لا يبث شكواه الى احد حتى ان بعض الشخصيات المصطفاة تخفي شدائدها حتى الموت بحيث لا يعرف اقرب البشر اليها ذلك.
طبيعياً ايضاً ثمة نصوص شرعية تشير الى مشروعية الشكوى اذا كانت الى الشخصية المؤمنة ولكن مع ذلك فان الاخفاء هو الافضل.
هذا الى ان ثمة فوارق بين نمط الكلام الذي يتردد بين كونه شكوى وبين كونه اخباراً عادياً لا يستخلص او يشم منه الشكوى او الجزع او عدم الرضى فقد ورد مثلاً ان القائل لقد اصبت بالحمى ليلة امس وان مثل هذه المقولة ليست شكوى بل هي مجرد اخبار.
اذن ثمة مستويات متنوعة من السلوك المتصل بمفهوم الشكوى من ان الشكوى الى الله تعالى دون سواه تأخذ مشروعيتها بالنحو الذي ورد في عبارة الدعاء القائلة بان الله تعالى هو موضع كل شكوى من هنا يمكن الذهاب الى توضيح ذلك من خلال مايأتي: ان عبارة موضع كل شكوى نستخلص منها جملة نقاط منها: ان الله تعالى وحده هو موضع الشكوى ومنها ان كل شكوى صغيرة كانت او كبيرة تأخذ مشروعيتها اذا كانت الى الله تعالى دون سواه.
ومنها ان الشكوى اليه تعالى تأخذ نسقاً من الفهم يتمثل في كونها أي الشكوى تجد من يفهمها بكل وثائقها ويقدرها تماماً على العكس من الشكوى الى غير الله تعالى الي البشر حيث ان محدودية البشر وعدم تعاطفه التام مع الشاكي تجعل الشكوى غير متسمة بالادراك لخطورتها ومنها: ان الشكوى مثل سائر ما ورد من الحديث عن الدعاء واجابته يتحقق عطاؤها اما دنيوياً بان يفرج تعالى عن الشاكي او يدفع بها بلاء اشد او يدخر ذلك الى يوم القيامة.
اذن في الحالات جميعاً تظل الشكوى الى الله تعالى محفوفة بعطاءات جمة نفسية وعبادية ودنيوية واخروية والاهم من ذلك هو ان الله تعالى في حسن ظن عبده حيث يتعين علينا ان نسعى لممارسة طاعته تعالى والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******