مع أن هذا الكتاب يحكي عن تأثّر الثقافة بعملية الحداثة والتحديث، فإن عبارة بيرمان كانت خلاصة ما حدث في ملحمة 7 أكتوبر، التي عبّر عنها قائد الثورة الإسلامية، الإمام الخامنئي بقوله: «من الإنجازات المهمة التي حققتها عملية طوفان الأقصى أنها أثبتت كيف تتمكن مجموعة صغيرة بوسائل وإمكانات قليلة جداً، لكن بإيمان وعزم راسخ من أن تبخّر نتاج سنوات من جهود العدو الإجرامية وتذرها في الهواء في غضون ساعات قليلة، وتستطيع أن تذلّ الحكومات المتكبرة والمستكبرة في العالم».
وجد الكيان الصهيوني نفسه وسط مواجهة، رغم سنوات طويلة من السيطرة العسكرية والأمنية والاستخباراتية، جعلَته يتنازل الآن أمام خصمه عن امتيازات يصعب تصديقها ولا يمكن تعويضها. رداً على هذه الخطوة شحذ القادة الصهاينة كل طاقاتهم لإدارة الأزمة بما يخدم مصلحتهم.
وفي هذا الصدد، اتبعوا ضمن خطة مدروسة في ظاهرها سياسةً ذات حدّين: إمّا حفظ غزة شريطة إخراج «حماس» من الساحة السياسية الفلسطينية، وإما سيكون إصرار «حماس» على البقاء على حساب دمار غزة وخرابها. إن السياسة ذات الحدّين المذكورة تسعى من ناحية إلى تحقيق انتصار جيوسياسي عبر دعوة كيان الاحتلال أهالي غزة للمغادرة إلى جنوب هذه المنطقة، ومن ناحية أخرى السعي للقضاء على حكومة «حماس» وحذفها من مستقبل غزة وفلسطين بوصف ذلك انتصاراً سياسياً.
من أجل تحقيق هذه الأهداف، جعلَ الكيان المجرم قطاع غزة الضيّق والصغير في مرمى نيران أنواع الأسلحة والمعدات الحربية كافة، ضمن مواجهة غير متكافئة، معتمداً على قوته العسكرية التي تُعد على الورق واحدة من أكبر القوى العسكرية في العالم، بميزانية عسكرية تزيد عن 20 مليار دولار، كما تستخدم أحدث المعدات العسكرية الأمريكية.
ورغم استخدام الحدّ الأقصى لقدرات هذا الكيان العسكرية وأسلحته التدميرية المتطورة، واستمرار المعارك والقصف في غزة، يصير عجز المحتلين عن تحقيق أهدافهم المعلنة واضحاً أكثر، إلى درجة أن القادة العسكريين الأمريكيين – في حال لم نقل الجنود الأمريكيين أيضاً - ذهبوا إلى الأراضي المحتلة من أجل مساعدة الكيان الصهيوني، لكن بعد مرور أكثر من شهرين لم يتحقق أي من تلك الأهداف.
في الساحة الديبلوماسية، سارع الداعمون التقليديون للكيان الصهيوني إلى مساعدته، خاصة القوى الاستكبارية التي تملك تاريخاً طويلاً في استعمار الشعوب في العالم وشن الحروب ضدهم، ومن بينها المجتمعات الإسلامية.
تحدّث الرئيس الأمريكي عن دعم معنوي وديبلوماسي غير محدود للكيان الصهيوني. كما أطلق الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني تصريحات واضحة لدعم الكيان الصهيوني. كذلك اعتبر المستشار الألماني حمايةَ أمن "إسرائيل" واجباً على عاتق حكومته. لكنّ هذه الإجراءات الديبلوماسية كلّها لم تتمكن من تحقيق إجماع ملحوظ على الساحة الدولية لمصلحة الكيان الصهيوني، إذ كتب السفير الفرنسي في شمالي أفريقيا وغربي آسيا رسالة إلى ماكرون احتج فيها على موقفه من حرب غزة.
الأهم من ذلك أن تفاقم الوضع الإنساني في غزة زاد حجم الاستياء الدولي، وقد تبعتْه طلبات من مختلف الدول تطالب بوقف النار. وأثار رفض الكيان الصهيوني وقف النار ردود فعل كثير من الدول في أمريكا وإفريقيا وآسيا. وإضافة إلى الإدانات والاحتجاجات الكلامية من الجهات الرسمية في مختلف الدول استدعت حكومات جنوب أفريقيا والأردن وتركيا وكولومبيا والبحرين وغيرها سفراءها من الأراضي المحتلة احتجاجاً على الأوضاع الكارثية في غزة.
إن هذه التصريحات والإجراءات والتصرفات الأكثر حدّة، مثل قطع بوليفيا العلاقات الديبلوماسية مع الكيان الصهيوني، تضمنّت رسالة واضحة مفادها أن الكيان الصهيوني خسر معركة الديبلوماسية الدولية في حرب غزة خسر الميدان للخصم. كما أن تهميش مشروع تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني والسعودية وجعله مشروطاً بحل أزمة غزة والقضية الفلسطينية من جانب السعودية هو تأكيد آخر لإخفاق الكيان في الساحة الديبلوماسية.
أما في الساحة الإعلامية، فاعتمد الكيان الصهيوني على وسائل الإعلام الرئيسية في الغرب حتى يتمكن من تحقيق انتصار في المجال الاجتماعي والإعلامي عبر إقناع الرأي العام. فروى جزء كبير من وسائل الإعلام الغربية الرئيسية حربَ غزة بمحورية إدانة مناضلي «حماس» في غزة.
كما سخّرت وسائل الإعلام المذكورة كل طاقتها لتصوير المناضلين الفلسطينيين في غزة كأنهم إرهابيون، من دون التطرق إلى منشأ تأسيس «حماس» من صلب المجتمع الغزّي والمعاناة والظلم الذي تعرض له خلال السنوات الماضية.
يُذكّر بثّ الأخبار والتحليلات المنحازة في الفضاء الإعلامي، وتجاهل حجم الدمار والمجازر والجراح والتشريد والتهجير لشعب غزة المظلوم هذه الأيام، بمقولة مارك توين الشهيرة: «يستطيع الكذب أن يدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الحقيقة حذاءها». كانت وسائل إعلام كثيرة في العالم تكرر وتعيد بث تبريرات الكيان الصهيوني وادعاءاته، في حين كان شعب غزة المظلوم محروماً الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والطاقة، ومستشفياته تُقصف بصواريخ الكيان الصهيوني الواحد تلو الآخر. كانت الأوضاع في غزة متفاقمة إلى حدّ قُدِّرَت القوة التدميرية للقصف العنيف الذي ينفذه الاحتلال على غزة ضعفي قوة قنبلة ذرية.
كانت الدعاية ونشر تصريحات وبيانات لنجوم السينما الداعمة للكيان الصهيوني والضغط على الممثلين المحتجين على جرائم الاحتلال إجراء آخر مارسه عمالقة الإعلام. وأظهرت الأخبار استبعاد عدد من نجوم هوليوود بسبب تصريحاتهم الداعمة لغزة كما يبدو، وكذلك كشفت شخصيات محبوبة ومشهورة أن الكيان الصهيوني خطط لاستدراجهم وتهديدهم بهدف دعم الاحتلال وإدانة شعب غزة. لقد أثار دعم وسائل الإعلام الغربية في تغطية الأخبار المتعلقة بحرب غزة احتجاج المحللين والمعلقين والإعلاميين.
ومن وجهة نظر هؤلاء إن الانحياز الكبير لدى وسائل الإعلام الغربية في تغطية حرب غزة يشير إلى ازدواجية المعايير، ويستحضر المفهوم الثقافي السائد في الغرب بأن الشعبين الفلسطيني والصهيوني لا يملكان الحق نفسه في الحياة.
بالنظر إلى الدعم التاريخي الذي قدّمته الدول الغربية وخاصة أمريكا طوال سنوات إلى الاحتلال الصهيوني وتماشي شركات الإعلام الضخمة مع سياسات الغرب التمييزية في جعل سنوات طويلة من العنف وتوسّع الاستيطان أمراً باهتاً، لا تبدو التغطية الجائرة والأحادية الجانب لحرب غزة شيئاً مفاجئاً. الغرض من هذا العرض هو تصوير الواقع وسردها على أساس المصالح الاستكبارية والتدخل في عملية إدراك الرأي العام وإحداث تأثير ممنهج في المخاطَبين. لكن استخدام التقنيات الإعلامية والنفسية من وسائل الإعلام الغربية في قضية غزة لم يكن موفقاً، ومخاطَبو هذا الإعلام في مجالَي إدراك القضية وردّ الفعل تجاهها تصرّفوا على نحوٍ يتعارض مع أهداف تلك الأجهزة الدعائية.
في الواقع، أدركت فئات كثيرة في المجتمع جيّداً أن عروض وسائل الإعلام المذكورة متحيزة ولا تعكس وجهة النظر الحقيقية للرأي العام من ناحية، ومن ناحية أخرى، تفاعلت معها عبر إجراءات جماعية مثل إطلاق «الهاشتاغات» في الفضاء المجازي أو المظاهرات في الفضاء الحقيقي. على سبيل المثال، ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة «واشنطن بوست»، خلال حرب غزة، انتشر «هاشتاغ» فلسطين الحرة على «فيسبوك» 39 مرة أكثر من «الهاشتاغ» المرتبط بـ"إسرائيل"، وكان هذا الرقم أكثر بـ 26 مرة على «إنستغرام». إضافة إلى ذلك إن التظاهرات الكبيرة في العواصم والمدن المهمة في العالم خاصة الدول الغربية الداعمة للكيان الصهيوني مثل باريس ولندن وبرلين تظهر استياء الناس من عنف الكيان الصهيوني وحجم الفجوة بين الرأي العام الشعبي وحكوماتهم بشأن قضية فلسطين.
في النتيجة، لم يتمكن الكيان الصهيوني في حملته الإعلامية والفضاء السيبراني أيضاً من جعل الرأي العام متماشياً مع جرائمه، أو على الأقل إجباره على التزام الصمت والحيادية تجاه الفواجع في غزة. يمكن عبر هذا العرض أن نخلص إلى أن حرب غزة بمبادرةٍ من مناضلي «حماس» وجّهت ضربة قوية إلى المكانة العسكرية والأمنية لكيان الاحتلال، وأسفرت عن فشله في الساحة الجيوسياسية والسياسية والديبلوماسية وعلى مستوى الرأي العام.
وفي النهاية إن قبول المحتلّين للهدنة - مع أنها كانت مؤقتة - من دون تحقيق أي من الأهداف المعلنة لم يثبت نظرية الفشل الذي لا يمكن ترميمه فحسب، بل حوّلها إلى فشل شامل.
مرة أخرى أثبتَ الفشل المخزي للمحتلين الصهاينة، باستحضار هذه الآية من القرآن الكريم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة، 249)، أن قوة الإرادة والإيمان لدى فئة قليلة ومستضعفة ومظلومة متوائمة مع الصبر والمقاومة يمكنها أن تُبخّر قوى صلبة في الظاهر وتذرها في الهواء «في غضون بضع ساعات».
روح الله عبد الملكي