بسم الله له الحمد حمداً كثيراً، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.. إخوتنا المستمعين الأكارم في كل مكان سلام عليكم ورحمة من الله تعالى وبركات وأهلاً ومرحباً بكم في هذا البرنامج القرآني "نهج الحياة" حيث سنواصل فيه بإذن الله تفسير سورة الرحمن المباركة بدءً بالإستماع الى الآيات الحادية والثلاثين حتى الخامسة والثلاثين منها فتابعونا مشكورين..
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ{31} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{32} يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ{33} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{34}
أيها الأحبة، قوله تعالى (سنفرغ لكم) لا يراد به الفراغ بعد الإنشغال، فالله لا يشغله شأن عن شأن، بل المراد الإهتمام الكامل. فعندما تستعمل كلمة "سنفرغ" في مجال الحديث عن الحساب الإلهي، فهي تدل على أن العدل في القضاء البشري يتوقف على الفراغ الكامل والإهتمام الكافي من القاضي. ويرى صاحب مجمع البيان أن التعبير عن الإنس والجن بـ (الثقلان) يدل على أن هذين النوعين من المخلوقات أرقى من غيرهما؛ لما يتصفان به من عقل وإرادة واختيار.
أما "السلطان" كلمة تطلق على القدرة القهرية والمادية التي تؤدي إلى التسلط على الآخرين، وتطلق على البرهان والدليل الذي يؤدي إلى إلزام الخصم وإسقاط حجته.
ومما تعلمه إيانا هذه الآيات الكريمة أولاً: المحاسبة من لوازم التربية والإرادة ومقتضايتها.
ثانياً: الله عزوجل كل يوم في شأن، فاليوم يوم العطاء دون حساب، وغداً يوم الحساب.
ثالثاً: ينبغي أن يترك الإيمان بالحساب أثره على كيفية الإستفادة من النعم الإلهية.
رابعاً: يخاطب الله الإنس والجن يوم القيامة بخطاب واحد.
وخامساً: التخلص من العقاب الإلهي، لا يتاح للجن والإنس، إلا بحجة ودليل يثبتان البراءة.
أما الآن، إخوتنا الأفاضل، ندعوكم للإستماع الى تلاوة مرتلة من الآيات الخامسة والثلاثين حتى الأربعين من سورة الرحمن المباركة...
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ{35} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{36} فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ{37} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{38} فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ{39} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{40}
"الشواظ" يعني الشعلة العظيمة الملتهبة من النار، و"النحاس" هو المعدن المعروف، والمقصود منه هنا النحاس الذائب من شدة الحرارة.
وفي معنى قوله تعالى "لا يسئل" احتمالات عدة منها: لا يسأل أحد من الناس عن ذنب غيره، فكل مجرم يحاسب وحده على ما اقترف من جرائم.
كما ورد في بعض الروايات، أيها الأكارم، أن في القيامة خمسين موقفاً، في أحد هذه المواقف يصدر الأمر بالتوقف والحساب، وفي موقف آخر يختم على أفواههم، فلا ينطق أحدهم إذا سئل، وفي موقف ثالث يطلب كل مجرم من المجرمين العون من الآخر، وفي رابع لا يصدر عنهم غير البكاء وعندما نجد في بعض الآيات حديثاً عن عدم السؤال، فربما يكون المراد الإشارة إلى بعض هذه المواقف.
ومما نستقيه من هذه الآيات المباركات أولاً: سهام العذاب الإلهي تلاحق المستحقين، فلا يقدر أحد منهم على الفرار.
ثانياً: كون أصل الجن من النار لا يحميه من العذاب الإلهي بالنار.
ثالثاً: المعرفة المسبقة بالعقاب على الجرائم، من النعم التي تستحق الشكر؛ لأنها تقي الإنسان من التصرفات غير المسؤولة.
رابعاً: يبدأ يوم القيامة بتغير نظام الطبيعة وقوانينها الحاكمة عليها.
وخامساً: ينتهي هذا العالم بالإنهيار، ولكن يبدأ بعد ذلك يوم جديد وعالم مختلف.
إخوتنا الأفاضل، في هذه اللحظات نصغي وإياكم خاشعين الى تلاوة الآيات الحادية والأربعين حتى الخامسة والأربعين من سورة الرحمن المباركة..
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ{41} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{42} هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ{43} يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ{44} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{45}
أيها الأكارم، كلمة "السيماء" من السوم وهو العلامة الظاهرة، و"النواصي" جمع ناصية وهي مقدم شعر الرأس. وتبدو الآية الحادية والأربعين وكأنها جواب عن سؤال مقدر، وهو: إذا كان المجرمون لا يُسألون عن ذنوبهم، فكيف يحاسبون؟ فتقول الآية " يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ" كما عند المؤمنين حسب قوله تعالى في الآية الرابعة والعشرين من سورة المطففين "تعرف في وجوههم نضرة النعيم".
أما "حميم" هو الماء الحار، و"آن" السائل الشديد الحرارة.
وما يمكن أن نتعلمه من هذه الآيات المباركة أولاً: تظهر أفكار الإنسان وأعماله في وجهه.
ثانياً: مآل المجرم إلى منتهى الذل، والخضوع التام للقهر الإلهي.
ثالثاً: التمييز بين أهل الخير، وأهل الشر، من النعم الإلهية.
رابعاً: الجرم والمعصية من الأسباب الداعية الى التكذيب وإنكار الحقائق.
وخامساً: العدل الإلهي الذي يقتضي نزول العذاب بمستحقيه من النعم الإلهية التي تستحق الشكر بقوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان).
مستمعينا الأفاضل، بهذا وصلنا الى ختام هذه الحلقة من برنامج نهج الحياة، فحتى لقاء آخر وتفسير ميسر آخر لآي الذكر الحكيم نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.