للاستشراق في الادب العربي مؤثران بارزان هما توجيه الدارسين العرب والمسلمين في معاهد الغرب الى اعتماد مناهج الادب الغربي ميزاناً للبحث واتخاذ نظريات النقد الغربي في الادب والتاريخ اساساً للتفكير والدراسة، اما الاثر الثاني فهو آثار المستشرقين انفسهم واراءهم في الادب العربي مما قام به امثال مارجيلوس وجيب وبروكلمن وبلاشير وجاك بيل، وواضح ان مثل هذه الاراء انما هي من نتاج العقلية اليونانية الوثنية والمسيحية الغربية والحضارة المادية المعاصرة يحدوهم حقدهم على الاسلام بدوافع صليبية ويهودية استعمارية. وقد مَّر بنا في لقاء سابق حديث عن طرف من اعمال تلاميذ المستشرقين والخاضعين لهم من امثال طه حسين وزكي مبارك وخلف الله وغيرهم كما تحدثنا عن جوانب من مكائد مارجيليوس وجيب وبروكلمن، في تشويه الادب العربي والتراث الاسلامي.
واذا ذهبنا نبحث عن هؤلاء المستشرقين المشتغلين بالادب العربي على فهم النص العربي وجدنا صورة فخرية عند اكثرهم شهرة وفهماً وما عرضت له الدكتورة بنت الشاطيء في تحقيقها لرسالة الغفران فيما يتصل بفهم المستشرق نيكلسون لنصوص هذه الرسالة كافي ليكشف عن الفهم المشوه والتفسير الغالط الذي يرتكبه المستشرقون بحق النصوص العربية، ان فهم نيكلسون لنص رسالة الغفران لأبي العلاء المعري فيه اخطاء كثيرة بعضها هين يمكن التجاوز عنه اما الكثرة الباقية فتعرض صوراً غريبة في فهم هذا المستشرق الكبير للنصوص العربية. وبعد ان تسرد بنت الشاطيء عدداً من اخطاء نيكلسون في فهم النص العربي وتفسيره تقول قصدت من هذا ان انبه قومي الى واجبهم في حمل هذه الامانة بعد ان اوكلوها الى المستشرقين وان ادعو علماء العربية الى نشر تراث لهم هم اولى به واقدر على فهمه.
اما بلاشير في كتابه عن المتبني الذي اصدره عام ۱۹۲۸ فأنه يحمل على هذا الشاعر حملات عنيفة ويهاجم كل من كان تبعاً له في العصر الحديث، وقد جرت كل محاولات بلاشير وماشنيون وفوساسي من منطق الحقد على مكانة هذا الشعر عند العرب وعند الادباء المعاصرين اذ يعتبره العرب ابين منطق للشخصية واشدهم اعتزازاً بها وتقديراً لها وسعياً لإبانتها، ولا شك ان حملات المستشرقين على المتبني تدخل في باب اعلاءهم وتقديرهم للمنحرفين في تاريخ الأدب العربي ممن أولوهم إهتماماً كبيراً امثال شعراً الأغاني، وقد جرى طه حسين في نفس الطريق واستعان بدراسة بلاشير في كتابة بحثه عن المتنبي واراد ان يسبق اساتذته ويفوقهم في تدمير شخصية المتنبي فلم يكتفي بأنتقاص شعره وسلوكه بل اتهم المتنبي بأنه لقيط والحق ان طه حسين هذا كان مسرفاً وجائراً وبعيداً عن الاسلوب العلمي في رمي المتنبي بهذه الشبة الشائنة الظالمة التي اثارها بغير دليل علمي او منطق صحيح.
وما تزال طلائع الاستشراق تحاول ان تحفر في الادب العربي مجرى زائفاً يعلي شأن بعض الادباء الحاقدين على العرب والاسلام وقد جمعهم جاك بيرك في كتابه مختارات من الادب العربي الذي اصدره عام ۱۹٦٤ حين تجاهل عمداً كل اصحاب الأصالة والنتاج المتحرر من شبهات التغريب وتبعية الانحراف نحو مناهج الاستشراق والتغريب، وجاك بيرك في كتابه هذا يجري مع منطق جيب ونيكلسون وغيره فيرفع من قدر ما وصف بأنه النهضة التي قامت بها الارساليات التبشيرية في بيروت ويتجاهلوا ما سبقها من اصول اليقظة الاسلامية الحقيقية برجالها ومناهجها وهو يركز كعادة الاستشراق على البستاني واليازجي وجرجي زيدان والذين اوفدتهم الارساليات، ثم ينتقل الى جيل المهجر جبران ونعيمة، ثم يصل الى طه حسين الذي وصفه انه قام بدور البطل وحمل لواء الشرعية العقلية في ادب البحر المتوسط.
ومن الحق ان نقول ان رؤية جاك بيرك لم تكن واقعية ولا صادقة وان الايام القليلة التي اعقبت كتابه ورؤياه كشفت عن زيف ما ذهب اليه وانها كانت مظللة لم تصل الى الابعاد الحقيقية او انها كانت مغرضة متعصبة تقصد الى ما تريد من تزييف الواقع وتفرض على الادب مجموعة من الاسقاط الذين لم يكونوا اهلاً لتلك المكانة التي حاول ان يعليهم اليها وقد سقطت هذه الواجهة المزيفة بمجرد ان تغيرت الظروف ودلت على هشاشتها وزيفها، لقد كان المستشرق الخصم جاك بيرك متأثراً بآداب زائفة غير نابعة من البيئة لكنها كانت مفروضة عليها، ولم يكن هذا المستشرق صادقاً في تقديره لتطور الادب العربي في العصر الحديث حيث اهتم بكتابات مجلة شعر وحوار وعني بالممعنين بالانحلال ممن لا يمثلون عصرهم ولا امتهم وكذلك اغضى جاك بيرك عن صفحة ناصعة من الاعمال الاصيلة للكتاب الممتازين وتجاهلهم عن عمد، اجل ان جاك بيرك قد كشف عن الهوى وضيق النظرة حين ترك مجرى النهر الدافق وذهب مع الرواقد التي ماتت، ان هذه المؤلفات التي ركز عليها مثل كتاب النبي لجبران او كتب زيدان او الاتجاهات الماركسية او الوجودية او الانحلال لم تكن إلاصورة باهتة من السراب الذي تعلق به المستشرقون ظناً منهم ان اهدافهم قد تحققت لكنهم لا يلبثون إلا قليلاً حتى يكتشفوا ان اصالة الادب العربي عميقة الجذور بعيدة الغور وانها ما تزال قادرة على مواجهة اي مؤامرات جديدة او شبهات مستحدثة لضربها.
وهكذا نرى ان الاستشراق عاجز عن استيعاب روح الادب العربي وبيان الفصحى وانه محكوم بالهوى وخاضع للاهداف الاخرى المعادية، ان ذوق المستشرقين لا يمكن ان يكون حكماً فضلاً عن ان يكون حاكماً في تقدير قيم الآثار الأدبية لأن الذوق الأدبي عند الناقد يتكون من عوامل شتى، بعضها قومي يرجع الى الجنس والأصل وبعضها نفسي يغتذي من الأماني ويعضها لغوي ينحدر من الماضي فكيف يستطيع المستشرق الغريب اذن ان يتذوق البيت الواحد من الشعر وهو انما تعلم العربية تعلماً واكتسبها اكتساباً، ثم مارس النقد على كبر من العمر وبعد جهد في حين تكمن في اثوابه روح أجنبية من أصل نشأتها، هذا ويرجع كثير من الباحثين قصور المستشرقين في الفهم العام بصرف النظر عن وجهة النظر الغربية المفروضة باختلاف المزاج النفسي والثقافي واختلاف البيئة وجذور الثقافة والتباين الواضح بين طبيعة الادب العربي وطبيعة الادب الغربي والاختلاف الاساسي بين الاصول الاسلامية في التوحيد والاصول الاوروبية للوثنية اليونانية والمسيحية الغربية اضافة الى دوافع الغاية والهوى.
*******