ولا بدَّ أنه كان يعيش بمشاعره الحالة التي تضغط المأساة فيها على المشاعر، ولكن لم يُنقل عنه في كربلاء أيّ موقف انفعاليّ لا مضمون له من خلال حركة الوعي.
فعندما نذكر حواره مع أبيه الإمام الحسين (ع)، عندما جاء يودّعه وقد بقي وحيداً بعد أن قتل كلّ أهل بيته وأصحابه، حينها شعر بأنّه قد يكون من واجبه أن يساهم في هذا الجهاد وهو العليل المريض، فقال لعمّته زينب (ع) ـــ كما تقول كتب السيرة الحسينيَّة ـــ ناوليني السيف والعصا، وعندما سألته ماذا يفعل بهما، قال: "أمَّا العصا فأتوكَّأ عليها، وأمّا السيف فأذبُّ به عن ابن بنت رسول الله".
لقد كان يعيش القضيَّة، فلم يقل أذبّ به عن أبي بفعل العاطفة بين الأب وابنه، بل قال، كما تقول كتب السّيرة: أذبُّ به عن ابن بنت رسول الله، باعتبار أنَّ المسألة تتَّصل بالعلاقة برسول الله، وهي ليست علاقة النَّسب، ولكنها علاقة الخطّ وعلاقة الإمام الحسين برسالة جدِّه التي تجسَّدت في جدّه عليّ (ع)، وتجسّدت في أمّه فاطمة الزَّهراء (ع) التي كانت في عمق شخصيَّتها الإنسانة التي عاشت الرسالة بعقلها وقلبها وحركتها.
وهكذا نجد موقفه الهادئ الصَّلب بعد أن قتل الإمام الحسين (ع)، حيث استطاع أن يصدر التَّعليمات لعمَّته زينب (ع) الَّتي كانت تعتمد عليه كونه المسؤول من النَّاحية الشرعيَّة والواقعيَّة عنهم بالرّغم من مرضه.
وهكذا أيضاً نراه يقف في مجلس "ابن زياد" ويتحدَّث بكلّ صلابة وبكلّ برودة الأعصاب، عندما تحدَّث "ابن زياد" عن الإمام الحسين (ع) بطريقة سلبيَّة غير لائقة، وقال للإمام (ع) إن الله قتل أباه، فردّ عليه (ع): {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[الزّمر: 42]...1
ولذلك، فإنَّ ما يُقال عن لسان حاله لا يمثِّله، عندما يتحدَّث البعض باسمه أو عنه.
أُقادُ ذليلاً في دمشق كأنَّني من الروم عبدٌ ضاع عنه نصيرُ
إنَّ الإمام السجَّاد (ع) في مواقفه، لم يخضع لأيّ حال ذلّ، والشِّعر الذي تحدَّث عنه بهذه الطريقة لم يكن شعراً ينطلق من الواقع، ولكنَّه ينطلق من إحساس الشعراء في تمثيلهم الجانب العاطفي، إذ لم ينقل لنا التَّاريخ من كربلاء إلى الكوفة إلى الشَّام، أن الإمام السجَّاد (ع) تحدَّث بطريقه بالكلمة جازعة، فنحن نعرف أنَّه عندما كان في مجلس عبيد الله بن زياد، واجه ذلك الطاغية الصَّلبة حينما قال: "أبالقتل تهدِّدني يابن زياد، أما علمت أنَّ القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشَّهادة؟!2..3 ".
السيد محمد حسين فضل الله
[1]من كتاب "النَّدوة"، ج2.
[2]لواعج الأشجان، السيّد محسن الأمين، ص211.
[3]من كتاب "النَّدوة"، ج 4.