نحن الآن امام قصة اخرى من التي قصها لنا القرآن، قصة اناس ليسوا انبياء لكن حادثتهم اوقل كرامتهم ومعجزتهم تعد من الحوادث المدهشة في التاريخ البشري، اهل الكهف، انهم فتية آمنوا بربهم في ظروف عسيرة عصيبة خانقة وكان همهم ان يحافظوا علي دينهم ويصونوه، كانوا شديدي الحرص ان لا يستردهم الواقع المريض اليه فيخسروا البصيرة الثمينة التي فازوا بها من خلال الايمان التوحيدي العظيم.
يقول القرآن الكريم في السورة التي ذكر فيها الكهف «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا» لا يذكر القرآن اسماء هؤلاء المؤمنين الاولياء ولا يحدثنا القرآن عن السبب الذي جعلهم يأوون الى الكهف انما يبدأ قصتهم بدعاءهم عند دخول الكهف «رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا» واضح انهم يسألون الله تعالى ان يفيض عليهم من رحمته وان يهيأ لهم من امرهم رشدا، نفهم منهم انهم مقدمون على عمل خطير ويخشون مطاردة شيء بالغ القسوة وربما امتدت يد هذا الشيء اليهم وعثرت عليهم في مكانهم، لم يكد دعاءهم ينتهي حتى ضرب الله على آذانهم فناموا، ضرب الله على آذانهم، تأمل يا اخي هذا التعبير واعجازه واسراره، نعلم الآن ان صلة النائم بالحياة واليقظة هي الاذن، اي صوت يصل الى المخ من الاذن يوقظ النائم واي ضوء يسقط على العين يترجم ويصل الى المخ فيوقظ النائم، فأذا كنا امام قوم ضرب الله على آذانهم فنحن امام اناس لن يستيقظوا الا اذا ارتفع الحجاب المضروب على الاذن، «فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا» عزيزي المستمع استمر الحجاب على آذانهم سنين عدداً، سنعرف فيما بعد من السياق القرآني انها كانت ثلاثمئة وتسع سنوات، هل ينام اناس اكثر من ثلاثمئة عام، لو نام الانسان اياماً متتالية هلك من الجوع، لكن هؤلاء ناموا اكثر من ثلاثمئة عام واستيقظوا جائعين ما هذا السر؟ كيف حدث ما حدث؟ نحن اما سر هائل، حياة ولا حياة، موت ولا موت، اناس نائمون وليسوا نائمين، كيف دقت قلوبهم ثلاثمئة وتسع سنين؟ كيف تنفسوا طيلة هذا الوقت، كيف اطاعت اجهزة اجسامهم هذه الحقبة الطويلة واستمرت في العمل اكثر من ثلاثمئة سنة، نحن امام عمل الهي خارق، امام معجزة او كرامة ولم يحدثنا الله سبحانه كيف ناموا هذه المدة ثم استيقظوا بشكل عادي، ان هذا موصول بمشيئة الله القادرة النافذة.
ما هي قصتهم بالتفصيل اهل الكهف؟ انهم فتية يعيشون في وسط مجتمع كافر كان يريد ان يقهر هؤلاء الفتية على عبادة الاوثان والاصنام، ربما اتهمهم بالخروج على نظامه لانهم موحدون متوجهون الى الله وحدة، اذن لا حل امامهم غير الخروج والهجرة ولكنهم لا يعرفون اين يذهبون، واحساسهم بأنهم مطاردون امر واضح ويلجئون الى الكهف للاستتار والاختباء، يتدبروا امرهم لكنهم دخلوا الكهف فناموا، ضرب الله على آذانهم فناموا، وكان للشمس دور في المعجزة «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ» الضوء لم يكن يصل اليهم كانت اشعة الشمس تتجنب الكهف وتميل عنهم في الشروق والغروب ولكي يبدد النص القرآني الغرابة التي يمكن ان تنشأ في النفس من هذا الامر الخارق يضيف قوله «ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ». ثمة شيء آخر في حكاية هؤلاء الفتية الآوين بدينهم الى الكهف «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ»رغم انهم موتى الا انهم يتقلبون وهم ليسوا موتى لانهم يتقلبون وليسوا احياءاً لانهم لا يقومون وهم ليسوا وحدهم في هذه المعجزة او الكرامة التي وقعت لهم فمعهم كلب وكليهم باسط ذراعيه بالوسيط، ان الكرامة التي وقعت للبشر وقعت لكلبهم الذي احبهم وتبعهم الى الكهف وبهذا الحب للاولياء دخل الكلب تاريخ الكرامات كما دخلت نملة سليمان وناقة صالح وحوت يونس تاريخ المعجزات، ومر الوقت، مرت ثلاثمئة وتسع سنوات ثم بعثهم الله من هذا الموت العجيب بعثهم الله ليعلموا ان وعد الله حق وتسائلوا بينهم، كم من الوقت مر عليهم وهم ينام واتفقت اراءهم انهم لبثوا يوماً او جزءاً من يوم، ثم اختلفوا في تحديد الوقت فأرجعوا الامر الى الله قالوا «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ» واحسوا بالجوع فقرروا ارسال احدهم ليشتري لهم طعاماً واوصوه ان يتخفى حتى لا يقع في قبضة السلطة الحاكمة الكافرة التي تتهددهم بالقتل، حتى الان يخفي الله تعالى عن الفتية المطاردين حقيقة الوقت الذي لبثوا فيه نائمين، كانوا يتصورون حتى هذه اللحظة انهم قضوا يوماً او بعض يوم، كانوا يتصورون ان نقودهم التي معهم تصلح لشراء طعام، كانوا يجهلون مرور اكثر من ثلاثمئة سنة على نومهم ويجهلون ان نقودهم قد تحولت الى عملة اثرية، هذه العملة الاثرية هي التي ادت الى اكتشافهم، عثر الناس عليهم وعرفوا انهم ناموا هذه المدة الطويلة «وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا» المفاجأة هنا عزيزي المستمع مزدوجة، فوجيء الناس ان هناك من يخرج عليهم من وراء ثلاثمئة سنة ليشتري طعاماً بنقوده الاثرية وفوجيء الفتية الاولياء انهم ناموا اكثر من ثلاثة قرون.
كانت هذه المفاجأة المزدوجة سبيلاً لاكتشاف حقيقة كونية يجهلها كثير من الخلق، هذه الحقيقة هي ان وعد الله حق، وعد الله ان ينصر اولياءه، وعد الله ان ينصر الخير على الشر مهما نفش الشر اجنحته واستعلى وظن انه الاقوى والاغنى والاثبت، «وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا» لم تكن كرامة هؤلاء الاولياء قد اثمرت ثمرة واحدة فقط، كانت هناك ثمار كثيرة في الشجرة، عرف الناس ان هناك من نام ثلاثمئة وتسع سنوات واستيقظ وعرف هؤلاء الفتية ان تطوراً خطيراً قد حدث في مدينتهم الكافرة السلطة التي طاردتهم بتهمة الخروج على القوانين الوثنية قد سقطت منهزمة واسفرت المعركة عن انتصار الحق في النهاية، كان هروبهم الى الكهف هو المقاومة الوحيدة الممكنة في زمانهم لكثرة الكافرين وقلة المؤمنين، ثم مرت الايام وزاد عدد المؤمنين وحاربوا الكافرين وانهزمت دولة الاوثان وجاءت سلطة تؤمن بالله، واذن فالمعارك بين الخير والشر محسومة مقدماً ومعروفة النتائج من البداية، ويعرف الناس ان الموت والبعث امور من امور الله عزوجل والموت ليس نهاية للحياة وانما هو نوم تليه يقظة ورقاد يعقبة البعث وها هي كرامة اهل الكهف تثبت فيما تثبته حقيقة البعث والنشور.
*******