ما الذي تولده في داخل الانسان وقفة امام البحر؟ البحر كما يقول هرمن ميرفل في روايته موبيدك ارض غفل ازلية مجهولة الهوية، والانسان هو ايضاً ارض مجهولة الهوية لا يعلمها الا الله تعالى.
في الانسان وداعة تتبدى في البحر سطحاً ازرق لكن وراء هذه الوداعة قوة تدمير هائلة واي قطرة من المياة تسقط بأنتظام على صخرة تستطيع ان تثقب الصخرة بقوة لا تستطيعها رصاصة تنطلق من سلاح، وكثيراً ما سحق البحر بثورته الاف السفن منذ بدء الخليفة الى اليوم ومع ذلك فأن تكرار هذه الامور جعل الانسان يفقد احساسه برهبة البحر وقوته، تلك الرهبة التي تقترن بأسم البحر منذ البدء.
وكذلك يفقد الانسان احساسه بالرهبة التي تعيش في داخله لانها تعيش في داخله، يعتاد عليها كما يعتاد على التنفس ومع الوقت ينسى انه يتنفس.
واول سفينة قرأنا عنها عزيزي المستمع كانت تسبح على صدر طوفان ولد من دعوة نبي غاضب وقد اغرق هذا الطوفان العالم بأكمله، لم يترك عيناً تطرف او حياة تتردد «ففتحنا ابواب السماء بماء منهمر وفجرنا الارض عيوناً فألتقى الماءعلى امر قد قدر».
ولقد نسي المعاصرون هذا الطوفان القديم رغم انه لم يزل يهدر الى اليوم وهو الذي حطم سفن هذا العام والعام المنصرم.
ان طوفان نوح لن يتوقف وما يزال يغطي اربعة اخماس هذا العالم الجميل، نحن يا اخي نعيش على الارض ونتصور اننا نعيش على ارض وحقيقة الامر ان الانسان يعيش على الماء في جزر وسط الماء، قارات الدنيا وطرقها وبلداتها ومدنها وقراها كلها جزر صغيرة ضئيلة في وسط موج لا يكف عن لطم الشاطيء، وحين التقطت سفن الفضاء صورة للكرة الارضية لم ينتبه احد الى ان الكرة الارضية ليست ارضية انما هي كرة مائية ظهرت زرقاء في الصور الفلكية لان اغلبية الارض مياه وهي اغلبية ساحقة تتيح للبحار ان تفوز في اية انتخابات بينها وبين الارض، اربعة اخماسها مياه والخمس الباقي هو المعارضة، وعلى الرغم من ان اهل الارض يتعصبون للارض واحياء المياه يتعصبون للمياه ويهلك ابناء الارض لو سقطوا في الماء وتحتضر خلائق المياه لو خرجت الى الارض، على الرغم من ذلك فهناك تفرقة ظالمة بين الارض والبحار ترى لماذا تعد المعجزة فوق الارض معجزة وتفقد اسمها في البحر، لقد انشقت الارض امام قورح وجنوده وابتلعتهم الى الابد وصرخ العبرانيون امام المعجزة وتنشق المياه كل يوم وتبتلع سفينة فلا يقول الناس عما حدث انه معجزة اليست قوة البحر معجزة؟ أليس غضبه معجزة؟ أليس فعل الله انى كان معجزة؟ تأمل البحر حين يثور، عبثاً تسأل عن رحمته او ترجوه ضبط انفاسه، انه يغمر الارض لاهثاً ناخراً كأنه جواد هائج قد تجندل عنه فارسه ثم ها هو الفارس يعود لامتطاء جواده بعد ان قام من الموت، ها هو البحر الفائض المهول يتحول الى طفل بالغ الوداعة وتتحول امواجه التائرة من افواه مفتوحة للموت الى سطور من ابيات شعر زرقاء تقبل اقدام الشاطيء واحياناً تتصرف مشيئة الله تبارك وتعالى الى شيء يتصل بالبحر ويطيع البحر قوانين لا ندري عنها شيئاً وتنشق مياهه عن طريق مفاجيء يسير فيه موسى مع بني اسرائيل ثم يتذكر البحر انه قد نسي شيئاً فيعود لاحضاره ويلتأم على فرعون وجنوده.
اجل يا اخي انه كل مازاد تأمل الانسان في البحر زاد احساسه بدهاء البحر وقدرته على الفعل المفاجيء الخفي، معظم مخلوقات البر تدب فوق البر ظاهرة للعيان مكشوفة واضحة، اما البحر فهو بالغ الدهاء ومعظم وحوشه المخيفة تنساب تحت الماء غير ظاهرة في معظم الاحيان مستخفية استخفاء الماكر الرواغ تحت اجمل الالوان الوديعة الزرقاء.
ترى هل يحاكي البحر الانسان في دهاءه ام ان الانسان تعلم دهاءه من البحر؟ لا نعرف، اننا بوصفنا من البشر سوف نشهد للبشر وان كانت الحقيقة ستظل خافية عنا رغم هذه الشهادة، لا نريد ان نطيل الوقوف امام البحر، نريد ان نتأمل البحر فقط، ونتأمل هذه الارض الخضراء الوديعة الطيبة التي يحيط بها من كل جانب، تأمل يا اخي كليهما، البحر والبر، الا ترى فيهما شبهاً غريباً لشيء مستقر في نفسك مثلما يحف هذا المحيط المهول بهذا البر الاخضر، كذلك تنطوي روح الانسان على جزيرة حافلة بالسلام والبهجة، جزيرة تحيطها مرعبات هذه الحياة الغامضة المروعة، رعاك الله يا اخي لا تغادر جزيرتك فأنك ان غادرتها فلربما لا تعود اليها ابداً.
البحر العظيم الذي كنا نتأمله منذ لحظات ليس في حقيقته الا صورة للبحر، الانسان يا اخي هو البحر الحقيقي حين يحب الانسان يتحول الى حقيقة البحر، ندير ظهورنا للصورة ونتأمل الاصل، نتأمل بحار الحب، الحب الروحي الصادق، الصافي الذي يتفجر في قلب الكائن البشري متجهاً بجماله وجلاله الى الله عزوجل! لماذا اختيرت كلمات البحار تعبيراً عن هذا الحب؟ اهو الولع بالاسرار الكامنة في مياه البحر؟ أليس الماء اصل كل شيء حي؟ قبل ان يبدأ البدء او يكون الكون، قبل ان تلقي الشمس بظلالها على الارض، قبل ان تخلق الارض من انفجار الكون او ابتسامة كونية نتيجة امر يتألف في ظاهر اللفظ من حرفين هما كن قبل اي قبل، كان الله ولا شيء مع الله ولا شيء قبله، كيف كان؟ أين كان؟ هذا سؤال الفكر القاصر المنفعل بقوانين الارض والا فأن الله جل جلاله لا يكيف بكيف ولا يأين بأين، كما يقول الامام الصادق (عليه السلام) «الا فضل ان نذيب الاسئلة في خشوع ماء يترجرج موجه بالسجود»، «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء» سبحانه وتعالى كيف كَانَ عَرْشُهُ هذا سر سكت عنه الحق، اين كان عرشه؟ هذا سر اجاب عنه الحق فزاد السر ولم ينقص ولم ينكشف، «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء»، اين كان هذا الماء؟ انها اسرار ملفعة بأسرار، تحمل القلب على الخشوع وتجذبه لبحار الحب العريضة البعيدة الاغوار، الملئى بالجمال والاسرار.
ان الله تبارك وتعالى ليتكرم على اصحاب القلوب التي لا تبتغي غيره ولا تحب سواه ان يكاشفهم بالاسرار وان يفتح مغالق المعاني الوجودية العميقة اللذيدة.
في بحار الحب الف سؤال وسؤال، والف غريق وغريق، والف لؤلؤة ولؤلؤة، والف محارة فارغة ومحارة مليئة بطين القاع، سهل ان يقف المرء على الشاطي وان يغمض عينيه ويقول ليس هناك بحر واصعب كثيراً من ذلك ان يكابد الموج ويجرب السياحة ويحاول الوصول، المهم للانسان ان يؤمن وان يجرب، ان يدخل في التجربة ليجد انه قد دخلته اشياء جديدة بدون اختبار وذهبت عنه اشياء كانت فيه بدون اختبار، انه التغير الروحي بالحب والتنور القلبي الذي يتفتح على الانسان على جمال الابديت وجلالها العظيم.
*******