السلام عليكم ايها المستمعون الكرام ورحمة الله. معظم الدراسات الحديثة التي عرضت للفن الاسلامي قد اهملت مسألة مهمة هي مسألة المعلم، اي الفنان، الخطاط، العمراني، النساج، المزخرف، المصور اي الذين يعود اليه تصور العمل الفني وتخطيطه وتنفيذه وتحقيقه سواء كان هذا العمل صحن نحاس ام مسجداً جامعاً. تبين لنا في لقاءات سابقة ان انا الفنان في الفن الاسلامي غائبة ومعنى هذا انه من غير الممكن قراءة هذا الفن من خلال فنانيه، اي من خلال مشاعرهم ومواقفهم ومعاناتهم الذاتية الفردية كما هو الحال في الفن الغربي منذ نهضته في القرن الخامس عشر الى القرن العشرين.
المسألة المهمة هنا يا اخي هي ان غياب هذه الانا لا يعني غياب الفنان وان غياب الذاتية لا يعني ابداً غياب الفن، الفنان حاضر من دون ريب لكن حضورة يختلف عن حضور الفنان في فنون اخرى او كما هو متعارف في الفهم العصري لمعنى الفن ودوره ولكن كيف يكون ذلك؟ إذا كان حضور الفنان في الفهم العصري يقوم على تفرد انا الفنان في مشاعرها واحاسيسها ومواقفها من الانسان والعالم فأن حضور الفنان في الفن الاسلامي يرتكز على قدرته وتمكنه من تحقيق مباديء فنية وجمالية منحدرة من مباديء وقيم فلسفية دينية مطلقة وشاملة.
ومن هنا يقوم حضور الفنان في المنطق الفني الذي يوحد العمل ولابد ان يكون متوافقاً كذلك مع الخصائص الجمالية والفلسفية التي انطلق منها الفن الاسلامي.
الجميل في الفن الاسلامي الموجود، الجميل حق، والحق حاضر في كل زمان ومكان وليس على الفنان ابتداع الجميل بل الشهادة له، الابداع اذن هو الشهادة على الجميل القائم، اي على الحق القائم وهكذا تتمحور الابداعية في حسن الشهادة في صفاءها وشمولها وادراكها واحاطتها وكمالها ووضوحها وصدقها، وثمة اسئلة تطرح نفسها بقوة، اين هي الخصوصية التي تميز اذن الفنان من الانسان المعتاد؟ اين هي الابداعية التي تميز فناناً من آخر؟ ربما كان علينا الاجابة على هذه الاسئلة ان نعيد من جديد قراءة الفن الاسلامي خطوة فخطوة او علينا الوقوف طويلاً عند التحولات والاضافات التي اغنته يوماً بعد يوم.
في مثل هذه العودة ومثل هذا الوقوف نكتشف ان دور الفنان وحضوره كان اساساً في الازهار والانتشار والنماء والتنوع والغنى في هذا التنوع، صحيح جداً ان بأستطاعتنا الوقوف عند عناصر محددة ومحدودة كعناصر تشكل جمالية الفن الاسلامي ومبادئه وكعناصر ثابتة لم تتأثر طيلة قرون بيد اننا نكتشف ان هذه العناصر التي شكلت المباديء الاساسية عند تحققها وعند ترجمتها الى اعمال فنية قد توالدت وتعددت في تجليات لا تحصى، هنا يأتي دور الفنان وحضوره ومن هنا نميز بين ابداع وابداع اي نميز القدرة والموهبة والابداعية التي استطاع بها الخطاط او النساج او النقاش ان يعدد تجليات المبدأ الواحد وان يعيد تطبيق المبدأ في صور اخرى مختلفة من دون ان يتناقض او يناقض المبدأ الاساس.
من هذا الذي تقدم كله يمكننا فهم اهمال الدراسات الحديثة لمسألة الفنان الفرد او المعلم بحسب التسمية الشعبية، ذلك ان تناول المعلم بالبحث تعني تناول الطرق والاساليب الفنية التي نما فيها فن الخط او فن الرقش او فن الزخرفة، والوقوف ازاء الاضافات او التحسينات او التقنيات او الخبرات التي تحققت جيلاً بعد جيل وعصراً وراء عصر، وتلك مهمة صعبة وتكاد تكون مستحيلة لانه لا التاريخ الادبي او النقدي الاسلامي قد سجلها او حفظ اخبارها ولا الفنانون او المعلمون انفسهم قد باحوا بأمرها او دونوها، وفي اصغاءنا للتاريخ الشفهي المتوارث نستمد اخباراً وحقائق كثيرة يمكن ان تساعدنا في فهم دور المعلم وحضوره في الفن الاسلامي كمبدع مستتر. هذا التاريخ الشفهي يتحدث عن الفن كسر من الاسرار الخفية وان هذا السر يعرفه المعلم وان هذا المعلم يحافظ عليه ولا يبوح به الا لمن كان اهلاً لذلك وتضيف القصص الشعبية المتوارثة صفات اخرى وتذكر صعاباً جمة حتى تبدو لنا شخصية المعلم غير معتادة لا كأنها تجمع بين الصوفي والفنان وان طريق الفن طريق لابد له ان يمر بأحوال ومقامات ورؤى.
وقد تشاهبت العلاقة بين المعلم وتلاميذه كما روتها هذه الاخبار المتناثرة هنا وهناك مع علاقة المريد بالشيخ لدى المتصوفة من جهة اهمية الاستعداد والرغبة في التعلم، ومن جهة التدرج في المراتب ومن جهة شهادة المعلم بقدرة التلميذ ونستطيع تلمس هذه القوانين التي تنظم الحياة الفنية بتأملنا في اعمال الخطاطين او تلك التي تسمى الشهادة حيث يذكر الخطاط مع توقيع اسمه اسم استاذه ولم يقتصر ذلك على الشهادة فحسب فبعض الخطاطين الكبار ظل يذكر اسم استاذه على كل عمل يوقعه، هذا التشابه بين المدارس الصوفية والمدارس الفنية من حيث القوانين الناظمة للسلوك والحياة يكشف لنا عن ان المعلم هو اكثر من كونه فناناً يبقي اصول الخط او اصول المهنة فهو الى ذلك صاحب معرفة او صاحب علم بالمفهوم العميق لمعنى المعرفة والعلم. فالمعلم كما تصفه الاخبار الشفهية المتوارثة حامل اسرار، وانطلاقاً من هذه المقدمات ينفرد كتاب المغرب والحرف التقليدية الاسلامية في العمارة لمؤلفه اندريه باكار من بين الكتب الفنية الضخمة عن الفن الاسلامي التي صدرت في السنوات القليلة الماضيه وذلك بألقاءه الاضواء على جانب يشكل اهم مرحلة واكثرغموضاً في مسيرة الفن الاسلامي، اي بألقاءه الضوء على المعلمين الحرفيين الذي يفترض بحسب الاعراف التراثية انهم وحدهم يحملون اسرار المهنة ومن ثم اسرار الفن ، انه الى الآن وعلى الرغم من الوعي والانتباه الجديد الى الكثير من خصائص الفن الاسلامي وسماته فما يزال موضوع المعلم الذي يعود اليه امر تصور وتأليف وابتداع وتنظيم عمل تحقيق العمل الفني غامضاً مجهولاً في تفاصيله الكثيرة سواء كان هذ العمل الفني مسجداً ام سجادة ام منمنمة ام مخطوطة وما تزال ايضاً مسألة الاسرار التي تفيد اخبارها ان المعلم يتسلمها من معلم سابق ليسلمها هو ايضاً الى من يخلفه، ما تزال لكثره غموضها تبدو كأنها تميل الى حالة الوراثة في تنبيه للقاريء تقدمه مقدمات الكتاب، يقول اندريه باكار ان هذا الكتاب هو قبل كل شيء كتاب اولئك المعلمين ويضيف شارحاً اهداف الكتاب، يرمي هذا المؤلف الى تقديم وثائق مصورة لن يسبق نشرها لكشف بعض الجوانب التي لم تعرض بعد عن الفن المغربي التقليدي في العمارة ولنقل شهادة، انها شهادة اجل اساتذة الحرف والصناعات التقليدية اي المعلمين. لكن كتاب باكار هذا يكتسب اهميته من جوانب اخرى فهو اولاً يقع في مجلدين كبيرين استغرق الف صفحة مع احتوائه على مئات من الصور بألوانها الطبيعية لمختلف انواع وعناصر الفنون التقليدية في فن العمارة المغربي في منهج يجمع التطور التاريخي منذ تأسيس مدينة فاس عام ۷۸۹ الى الوقت الحاضر، مع تعدد الانواع الفنية وهذه الصور نادرة ليس لانها باهرة الجمال والابداع فحسب بل لانها نادرة فعلاً اذ تعود في معظمها الى القصور الملكية المغربية المحجوبة عن عيون الناس الى جانب ندرة هذه الصور ونجاحها وضوحاً ودقة تمكن الاشارة الى شمولها فهي تتابع بجهد كبير الانواع والخصوصيات، انها لصور وثيقية الى جوار كونها صوراً فنية وبهذا يتمكن المرء من ان يدرس عن قرب الكثير من خصائص بنية الفن الاسلامي والسلام عليكم ورحمة الله.
*******