السلام عليكم ايها الاصدقاء الاعزاء ورحمة الله. ثمة عوامل تغري بالوقوف ازاء الفن الاسلامي الموروث وقراءته قراءة جديده متأنية خاصة وان الاهتمام اخذ يشكل منذ سنوات قليلة شبه ظاهرة ثقافية في العواصم الغربية الكبرى وظهر هذا الاهتمام بصورة كتب ودراسات ومقالات كما ظهر في صيغة معارض مهمة ضمت اثاراً متنوعة من هذا الفن العظيم.
ومهما تكن دوافع الغربيين الاهتمام بالفن الاسلامي فأنها ظاهرة فريدة على كل حال فما في التاريخ الادني والنقدي للمسلمين اهتمام مثير رافق نمو هذا الفن على الرغم من حضوره الوسيع وانتشاره في ثلاث قارات وإذا كانت هذه الاسباب وغيرها يا اخي تشكل دوافع مقنعة للوقوف ازاء الفن الاسلامي وقفة تأمل عصري فأن مصاعب كثيرة تقف بأزاءنا وتحول دون الوصول الى هذا الفن. ان قراءة الفن الاسلامي تفرض يا اخي شروطاً خاصة او هي تتطلب استعداداً ليفتح هذا الفن لنا ابوابه ويبوح لنا بأسراره، فما هي هذه الشروط وكيف يتكون لدينا هذا الاستعداد للانفتاح على هذا الفن الاسلامي من اجل الغوص في عمقه واستجلاء مضامينه الخفية.
الاستعداد الاول الذي ينبغي هو ان نوقظ من جديد لغة العين اي ان نحيي في العين الرائية لغة كانت تحسنها في الماضي وتجيدها ومن خلالها كانت تتواصل مع هذا الفن بشتى انواعه وانماطه من خصائص الفن الاسلامي، انه فن يتوجه اولاً الى العين ويأخذ من العين طريقاً للوصول الى الانسان ككائن موحد، ايقاظ لغة العين يا اخي يعني ان يكون بأستطاعة العين ان تقرأ مضمون الخط المستقيم والمنحي، المساحة والحد، الخط المغلق والخط المفتوح تجليات النقطة، اكتمال الدائرة، اللون الى جنب اللون، النظام الخفي الذي يحكم مسار العناصر وغاياتها وبعبارة اخرى علينا ان نقرأ ذلك الشكل على انه مضمون، ذلك ان السؤال الذي يقدمه الفن الاسلامي هو كيف تراه لا ماذا تراه، ان الفن الاسلامي منذ خضوره الاول كان شاهداً على كيفية الرؤية لا على موضوعها، العين اذن هي القصد الاول سواء كنا في مجال القراءة والتأمل ام كنا في مجال التذوق والتفهم، والعين هنا ليست اداة العقل او اداة المخيلة او اداة الحس كما هي بالقياس الى الكثير من الفنون بل انها الان الجهة او الطرف الاخر في المواجهة والطرف المستقل ومن ثمة تكون العين لهذه المواجهة هي الانسان ككل في عقله ومخيلته وحسه.
مفردات لغة العين هي مشكل الشكل من خط ومساحة ولون واطار وحد ونظام اي الشكل كحروف تؤلف كلمات وجمل ومصطلحات ورموز واشارات وحركات من خلال اقتداءها بنظام خاص بشكل سر هذه اللغة وجوهرها، وفي الاصغاء للنظام الخفي الذي يحكم مسيرة هذا الشكل والسير معه في قوانينه وعلاقاته وامكاناته وفي الانتباه لمعنى تجلياته ومصدرها يتم الفهم او يتم اللقاء بين المتأمل او المتلقي وبين الفن الاسلامي فتحتجب عندها اللغة والعين على السواء ليقف الانسان ككل ازاء الشهادة التي يشهدها هذا الفن، اجل يا اخي انما نعنى هنا بلغة العين، لاي معنى؟ نعنى بهذه اللغة لاننا بأزاء فن لا يروي ولا يصف ولا يعلق ولا يشرح ولا يرتبط بحادثة ولا فعل كما انه لا يبوح لرائيه بحزن او فرح او انكماش مثلاً، فمعنى هذا انه فن بلا زمان وبلا مكان فلاحاجة الى ذاكرة تحفظ الاسماء والحوادث والتواريخ والافعال، بل نحن بحاجة الى عين تعرف كيف تقرأ الفرح والخير والفعل، من خلال الخطوط والمساحات في تلاقيها وتباعدها وتقاطعها وتجاورها وتناسقها ودقتها ونظام تراكمها، اي ان نقرأ السنن التي تقف وراء تجلياتها السنن كرمز او كأشارة الى نظام خفي يحكم تجليات الكون بأسره من طبيعة وانسان ومعنى.
الاستعداد الثاني الضروري لادراك اثار الفن الاسلامي هو التوحيد اي ان نوحد الفن الاسلامي في تجلياته المتعددة في العمارة وفي الرقش والخط والرسم والحفر وفي السجاد والنسيج والخزف والزجاج والخشب والفضة والنحاس والذهب وفي المسجد والبيت وداخل البيت وان نوحد كذلك بين الفنانيين الذي صمموا وبين الفنانيين الذين نفذوا وحققوا وان نوحد ايضاً بين الاجيال والقرون والاسماء والجهات، معنى هذا ان هذا الاستعداد لقراءة الفن الاسلامي يقتضي ان نوحد بين هذه التجليات والانواع المختلفة وان نقرأها كتجلي واحد لفن واحد ولفنان واحد، ان التوحيد هنا ليس الوسيلة الاكثر فعالية لكي نستطيع ان نستوعب هذا الفن بل هو غايته او هو شهادة هذا الفن الكبرى، هذا التفرد في اسلوب القراءة يفرضه الفن الاسلامي نفسه فنحن ازاء فن هيمن اكثر من الف عام في ولادة ونمو وانتشار واتساع وازدهار من خلال صيغة واحدة من حيث الجوهر، ذلك ان العلاقات المتميزة بين الفن الذي يكشف عنه المسجد الاقصى وهو اقدم اثر عماري اسلامي والفن الذي تكشف عنه آنية من نحاس او فخار من اواسط آسية او ورقة من مصحف كتب بالقرب من امواج المحيط او خط لكاتب مجهول او منمنمة، هذه العلاقة تكاد الان ان تكون واهية لدينا او كأنما هي مفقودة من ايدينا.
ان التشابه والتقارب بين اثار الفن الاسلامي على الرغم من تباعد الزمان والمكان هو الذي يغري بالتوحيد بين تعدد تجليات هذا الفن كمنهج للقراءة اولاً وهو الذي سيرفع التوحيد في وقت الاصغاء والتأمل من كونه منهجاً الى مرتبة القصد او الغاية او المعنى الذي يدلي به هذا الفن كرؤية جمالية ابداعية شاملة فالتوحيد الذي يسهل علينا قراءة هذا الفن هو نفسه المبدأ الجوهري الذي ينحدر منه، انه التوحيدي الذي بشر به الاسلام كدين صدر من السماء ليغمر العالم بنور التوحيد وعلى هذا فما ثمة معنى مثير او مهم في قراءة الفن الاسلامي خلال عصوره على الرغم من بعض التغيرات او الاضافات التي شهدها ازدهار هذا الفن بين عصر وآخر، لماذا؟ لان هذه التغييرات تظل في ضمن تفاصيل صغيرة لا تمس الجوهر او المنطلق الاساسي الذي يشكل خصائصه وسماته بأعتباره فناً ينحدر من رؤية جامعة فلن تتغير توجهات الفن الاسلامي مع تبدل العصور والقرون مع امكان الاشارة الى تفاوت العصور والقرون في الازدهار، ذلك ان هذا الفن لم يتناول منذ البدء افعال الانسان في الزمان والمكان بل تناول فهم الانسان للانسان والعالم فهماً كلياً شاملاً ينحدر من دين توحيدي واحد، هذا هو يا اخي الاستعداد الضروري لفهم الفن الاسلامي في ايقاظ لغة العين وفي النظرة التوحيدية لهذا الفن، على امل ان نواصل في اللقاء القادم الحديث بسائر معالم هذا الاستعداد والسلام عليكم ورحمة الله.
*******