وقد عقد مؤتمراً صحافياً مع نظيره البحريني عبد اللطيف الزياني، وقال إنه ناقش مع الجانب البحريني عدداً من القضايا، منها: العلاقة الاقتصادية بين البلدين، والملف السوري، وقضية الاتفاق النووي الإيراني، وفلسطين، والملف اليمني، ومشكلة الغذاء العالمية، والصراع الدائر في أوروبا بين روسيا وأوكرانيا.
بعدها، توجه إلى السعودية للقاء وزير خارجيتها ووزراء خارجية قطر والإمارات لبحث أمن الطاقة والأمن الغذائي وجملة من القضايا المشتركة، وستعقب زيارته للخليج (الفارسي) زيارة لا تقل أهمية إلى تركيا في 8 حزيران/ يونيو، علّق عليها الجانب التركي بأنّ محورها هو بحث تصدير الحبوب للحدّ من أزمة غدائية قد تجتاح العالم.
إلى أيّ مدى تكمن أهمية زيارة الوزير الروسي للخليج (الفارسي)؟ من المعروف أن هذه الدول لا تزال تدور في الفلك الأميركي، وهناك قواعد عسكرية أميركية وبريطانية مهمة فيها، فهل تقتصر زيارة لافروف على البُعد الاقتصادي، ويعتبر كل ما عدا الاقتصاد ضرباً من ضروب الأثر الرمزي المعنوي الذي لا يتعدى تأثيره صدى الإعلام؟
من المؤكد أن العلاقة الدولية أكثر تعقيداً من هذا التصنيف الذي يوحي بالثنائية التي لا يمكنها أن تتلاقى في أرض مشتركة، فحتى في أوج الخصومة بين أميركا والاتحاد السوفياتي قبل انهياره، كان هناك أطراف تمثل مساحة تفاهم في بعض المسائل بين الطرفين، لكي يتجنّب كلّ منهما وقوع الكارثة، فكيف اليوم، ونحن نعيش علاقات دولية أكثر تعقيداً، دخلت فيها الأسواق المشتركة كلاعب رئيسي في نسج المعادلات؟
مثلاً، يربط روسيا بالسعودية والإمارات رباط وثيق في سوق الطاقة، وتحديداً في ما يعرف بـ"أوبك بلس" المعني بحصص النفط، إذ تضع كل الأطراف حصص الأعضاء موضع الأهمية، لئلا تضطرب أسعار هذا النوع من السلعة الحساسة، التي تتحكَّم في أسعار الكثير من السلع الأساسية في العالم، لكون النفط مشغلاً لسلاسل الإمداد البري والبحري والجوي. ولو تُرك النفط للعشوائية، لانخفض سعره إلى الحد الذي يجعل الجميع خاسراً إذا ما تدفق من المُصدرين الكبار بلا ضابطة.
كما يربط روسيا بقطر وإيران سوق الغاز الَّذي لا يقل أهمية عن النفط، وهو المزود الأساسي للكهرباء والتدفئة والكثير من المصانع في العالم؛ ففي سوق الطاقة وحده، بشقيه النفط والغاز، يحتاج العالم إلى التفاهم مع روسيا للحدّ من التضخم، ولو بـالحدّ المعقول الّذي يمكن السيطرة عليه. وتعدّ دول الخليج، باستثناء البحرين وعمان، لاعباً رئيسياً في هذا السوق.
لكن بالتأكيد، إنَّ زيارة لافروف المكوكية لا تنحصر في هذا الإطار فحسب، فهناك أزمة غذائية تنتظر العالم ما لم تحل مسألة تصدير الحبوب من ميناء أوديسا؛ الميناء التي تقول روسيا إنّه محاصر بالألغام الأوكرانية التي ألقتها كييف من دون امتلاك آلية لإبطالها، فيما تتّهم أوكرانيا الجانب الروسي بأنَّه السبب في عدم تصدير الحبوب، لأنَّ السفن الحربية تحاصر البحر الأسود.
ويبدو أنَّ الجانب الروسي ليس لديه أي مشكلة في تصدير الحبوب الأوكرانية إلى العالم، لأن ذلك لا يضرّه، لا تكتيكياً ولا استراتيجياً، في أهداف عمليته العسكرية. وفي هذا الجانب، سعى لافروف إلى التفاهم مع أطراف عدة لبلورة حلّ متوازن لهذه المشكلة قبل تفاقمها وتحولها إلى كارثة.
كلّ ما سبق مفهوم في دائرة المصالح المشتركة والحدّ من التضخم العالمي ومنع أيّ كارثة محتملة في وقت حساس للغاية، لكن ما سبب زيارة لافروف للبحرين؟ إنَّ المملكة الصغيرة ليست لاعباً وازناً في سوق الطاقة، ولا تمتلك تأثيراً سياسياً في المسرح الدولي بشكل ملموس، فما هو الداعي لهذه الزيارة في ظرف يحتاج لافروف فيه إلى كل دقيقة من وقته، لكونه ممثلاً لسياسة بلاده الخارجية، في جو مشحون من الضغوط والتحديات التي تواجه موسكو بشكل غير مسبوق؟
هناك قراءتان لهذه الزيارة:
القراءة الأولى تذهب إلى أنَّ زيارة لافروف للبحرين هي مجرد استكمال لشراكة اقتصادية تعيد تموضع الاقتصاد الروسي مع العالم، إضافةً إلى أثر رمزي مفاده تصريحات أطلقها الوزير الروسي على مقربة من قيادة الأسطول الأميركي الخامس، ما يعكس أثراً واهتماماً غربياً بهذه الزيارة، على الأقل على صعيد التداول الإعلامي.
القراءة الثانية تقول إنَّ روسيا تهتم بالبحرين لتموضعها الجغرافي في الخليج، وإطلالتها على ممرات بحرية مهمة قد تحتاجها موسكو في العديد من المهمات التجارية، كما أنَّ الأخيرة معنية بفتح نوافذ تنفيس عن ضغط العقوبات الغربية عبر حلفاء الغرب، والبحرين في هذا الإطار حليف مهم للغرب، للسبب نفسه الذي يسعى إليه الاتحاد الروسي؛ أي الجغرافيا، وهو السبب ذاته الذي جعل الإمبراطوريات البائدة تتعاقب على استعمار هذا الأرخبيل على صغر مساحته.
ويبدو أنَّ القراءة الثانية أقرب إلى الدقة، مضافاً إليها أن نزع فتيل التوتر بين إيران ودول الخليج (الفارسي)، ومنها البحرين، -فيما لو استطاع الروسي فعله- سيكون مكسباً دبلوماسياً له من جهة، ومسّاً بالمساحة الأميركية من جهة أخرى، وهذا ما تفرضه قواعد الشطرنج على رقعة العالم، فإذا حركت واشنطن بعض القلاع في أوروبا لمحاصرة روسيا، حرك الروس بعض الخيول في الخليج (الفارسي) للحدّ من تأثير الخسارة. هذه اللعبة هي تماماً ما يشتغل عليها الصينيون أيضاً، لكن بصورة استباقية.
لكنَّ الأسئلة الأخرى المهمة هي: ما موقف دول الخليج (الفارسي) من التحرك الروسي؟ وهل يمكن فعلاً أن يتّخذ الخليجيون موقفاً مخالفاً لإرادة الإدارة الأميركية في هذا الظرف المشحون أم أن دول الخليج وتركيا هي مساحات مشتركة يحتاج كل من الطرفين، الروسي والأميركي، إلى بقاء خط رجعة فيها في حال تبدّل الأحوال؟
أعتقد أنَّ العالم يمر بمرحلة انتقالية، ودول الخليج تفتقد الرؤية الواضحة في اتخاذ الموقف. طبعاً، هناك حثٌّ من الولايات المتحدة على تطبيق عقوباتها على روسيا، لكن لا يوجد تشدد وإلزام، لأن هذه العقوبات تضر العالم أجمع، بل إنَّ الحزمة السادسة من العقوبات الغربية أوقفت، لأن ارتداداتها على الغرب نفسه مؤلمة جداً، وهذا الأمر يحتاج الغربيون فيه للعديد من المراجعة، فكيف بغيرهم؟
ومن المرجّح أن تمارس دول الخليج (الفارسي) دوراً حذراً في العلاقة بين أميركا وروسيا، مع اهتمام أكثر بالمطالب الخليجية لواشنطن، وابتزازها بشكل غير مباشر في هذا الشأن، مثل عرش المملكة العربية السعودية لمحمد بن سلمان، وتموضع الإمارات في باب المندب، وغيره من المطالب التي تحدثت عنها صحيفة "وول ستريت جورنال" قبل شهر تقريباً.
طبعاً، هناك تحليلات تشيد بالدور الخليجي والسعودي تحديداً في الانفتاح على الصين والتعامل مع روسيا. وتظن تلك التحليلات أنَّ تلك الخطوات إيذان بخروج الرياض عن بيت الطاعة الأميركي، فيما لا يوجد ما يؤكد هذا الاتجاه، وخصوصاً أن واشنطن لم تمانع هذا الحد من العلاقة.
وحتى الآن، لا تضر علاقة دول الخليج (الفارسي) بالصين وروسيا بأي مصلحة أميركية، والاختبار الحقيقي لصحة هذا الرأي من خطئه هو توجه الخليج إلى التعاون العسكري مع بكين وموسكو أو إحداهما. حينئذ، سنعرف ما إذا كان الخليج لديه اللياقة لكسر الخطوط الحُمر الأميركية أو لا.
عباس الجمري