البث المباشر

الشعر القصصي في الادب الفارسي والآداب الاسلامية الاخرى (القسم السادس) - قصة مجنون ليلى / الجزء الثالث

الثلاثاء 15 يناير 2019 - 14:55 بتوقيت طهران

الحلقة 17

المذيع: اعزائنا المستمعين، سلام من الله عليكم، نرحب بكم في الجزء الثالث من قصة مجنون ليلى والتي تابعنا معكم أحداث الجزء الثاني منها ضمن موضوع، الشعر القصصّي في الادب الفارسي، وقد تطرقنا إلى ماقيل في تعريف الحب واقسامه ومراتبه، وإلى ظاهرة الجنون في الحب كما تحدثنا عن الحب العذري وعوارضه واسباب موت عشاق الحب العذري. كّل هذا ونحن حول خيام هذين المحبين ولم ندخل فيها، وكأن في نفوسنا رهبة من الخوض في خضّم لجة هذه التراجيديا الحزينة. ولكن لابد من سبر أغوارها والوقوف على أسرارها. وكان آخر ما طرحناه وتاقشناه مع خبير البرنامج الدكتور عباس العباسي استاذ الادب العربي والخبير باللغة الفارسية وآدابها، هو كيفية وصول أخبار هذه القصة لنا، وقد بقيت للحديث بقية، نتابعها معه وهو الآن موجود معنا في الاستوديو نحيّيه.
المذيع: دكتور نعيد عليكم ما طرحناه في الحلقة الماضية، وهو كيف وصلت إلينا أخبار قصة مجنون ليلى وما مدى صحتها؟
الدكتور عباس العباسي: بسم الله الرحمن الرحيم - قلنا إن مصادر قصة مجنون ليلى، هو ما وصل إلينا أخبار الرواة وإذا رجعنا إلى الرواة الذين كانوا مصدر ما نعلم من الادب العربي وأخباره ونصوصه، وجدنا القليل من هؤلاء الرواة ينفون وجود هذه القصة ووجود قيس المجنون. حتى الرواة الذين يشككون أو ينفون وجود وقيس، نراهم في أماكن ووثائق أخرى يثبتون وجود القصة ووجود قيس.
المذيع: ومن هم هولاء؟
الدكتور عباس العباسي: من الذين نفوا وجود قيس ثم اعترفوا به في روايات أخرى (ابن الكلبي) والا صمعي، فهما ينكرانه في رواية يذكرها صاحب الاغاني، ثم يذكرا اعترافهما به في صفات أخرى من نفس المرجع.
المذيع: وهل هناك من لم يتردد بوجود قيس من الرواة؟
الدكتور عباس العباسي: نعم، وأن المثبتين لوجوده اكثر من المتشككين، ومنهم يونس النحوي، وابو عمرو الشيباني، وحماد الرواية، وابو عبيد والهيثم بن عدي، وباقوالهم يستند ابوالفرج الاصبهاني في ما رواه عن قصة مجنون ليلى في الاغاني وهو المصدر الاهم عن قيس وليلى.
المذيع: وما قصه كمثرة المجانين في القرن الاول الهجري؟
الدكتور عباس العباسي: نعم، كثر ـ على ما يبدو ـ المجانين في هذه الفترة ولكن لنرى ما هو مفهوم الجنون عندهم ولماذا أطلق هذا الاسم عليهم. يذكر الاصمعي الذي كان يعيش في القرن الثاني الهجري، رواية فيها دلالة خاصة:يقول الاصمعي، سألت أعرابياً عن المجنون العامري، فقال: عن أيهم تسألني؟ فقد كان فينا جماعة رموا (اصيبوا) بالجنون، كّل منهم يتشبث بليلى، قلت أنشدني لبعضهم، فأنشدني لمزاحم بن حارث المجنون:

ألا أيها القلب الذي لجّ هائماً

بليلى وليداً لم تقطع تمائمه

أفق، قد أفاق العاشقون وقد أنى

لك اليوم أن تلقى صديقاً تلائمه

قلت (الاصمعي) فانشدني لغيره، فأنشدني لمعاد بن كليب المجنون:

ألا طالما لاعبت ليلى وقادني

إلى اللهو قلب في الحسان يتوع

وطال إمتراء الشوق عيني كلما

ذرفت دموعاً تستجد دموع

قلت: فأنشدني لمن بقي من هولاء فقال:حسبك، فوالله إن في واحدٍ من هؤلاء لمن يوزن بعقلائكم اليوم.
المذيع: اذن لم يكونوا مجانين بالمعنى المتعارف عن الجنون؟
الدكتور عباس العباسي: نعم، إن صفة الجنون التي وصف بها هؤلاء الشعراء ليست صفة ذم، بل هي من صفات المديح، وهذا الجنون ما هو الا جنون صوفي يتحلي به الحكماء والزهاد، هم عقلاء المجانين من الناس.
المذيع: فلماذا كان يظن الناس أنهم مجانين فاطلقوا عليهم هذه الصفة؟
الدكتور عباس العباسي: الناس تسمي الحكماء مجانين لأنهم يخالفونهم في عادتهم. اما عن سبب انتشار هذه الصفة في المجتمع الاسلامي بهذا المعنى الصوفي واطلاق صفة الصوفي على قيس العامري، وهذا لا يعتبر دليلاً على إنكار شخصية قيس التاريخية، وإنما كان ذلك سبيلاً لنقل شخصية قيس التاريخية من مجال التاريخ إلى مجال التصوّف. وهذا ما حمل الشعراء الايرانيين على أن يجعلوا من قيس صوفياً متفانياً في حبّه الصوفي وسنتحدث عن هذا لاحقاً.
المذيع: وهل كان قيس شاعراً حقاً، أم نسب اليه الشعر؟
الدكتور عباس العباسي: يقول ابن قتيبة عن مجنون ليلى: هو من اشعر الناس على أنهم أنحلوه شعراً كثيراً رقيقاً يشبه شعره (اي نسبو اليه شعراً كثيراً).
المذيع: وهل هناك من أدلة أخرى ثبت وجود قيس أو تساعد على ذلك؟
الدكتور عباس العباسي: إن كثرة المثبتين لوجود قيس قياساً للمتشككين به، احدى الادلة على أثبات وجوده.والدليل الثاني هو شعر قيس الذي عاشه في تجربته الشعرية. وفي مشاعره، فان صدقه في أشجانه وحرمانه بسبب حبه البائس الذي دام عليه حتى انتهت حياته بسببه لهو اكبر دليل على أن هذا الشاعر، واحد من هؤلاء العشاق ولا يهمنا الاسم، فقد ذكرته اكثر من اسم، فسمي قيساً بن الملوح، وقيساً بن معاذ، وسمي المهدي بن الملوح وما الفرق اذا كانت حبيبة هي ليلى بنت مهدي بن سعد بن كعب بن ربيعة.ما نظري إلى حاله واسمع مقالة:

فإن تك ليلى في الفراق مريضة

فإني في بحرالحتوف غريق

إذا ذكرتها النفس ماتت صبابة

لها زمزة قتالة وشهيق

وقد صرت مجنوناً من الحب هائماً

كأني عان في القيود وثيق

برى حبها جسمي وقلبي مهجتي

فلم يبق إلا عظم وعروق

فلا تعذلوني إن هللت، ترحموا

علي ففقد الروح ليس يعوق

وخطوا على قبري إذا مت واكتبوا

قتيل لحاضر ماتٍ وهو عشيق

الى اليد اشكو ما الاقي من الهوى

بليلى ففي قلبي جوى حريق

فلا يقول هذا الشعر الا من اكتوى بنار الحب كمجنون ليلى نعم، هذا عن شعوره الظاهر، أما عن شعوره الباطن او عالم اللاشعور ومدى تمثيل اللاشعور لرغباته وأحلامه، وجدنا دليلاً آخر على صدق هذه الشخصية التي تسف عنها هذه الاشعار بوصفها تجارت صادقة لصاحبها قلما نجد نظيراً لمثله في تعمقه في لا شعوره وفي روعة تصويره.فهذا التعبير الصادق عند قيس والذي عبر فيه عن احلامه الحبيسة يدل على أصالة شعره وشخصيته فهو استمد صور خياله من اللاشعور متسامياً لينقل تلك الغرائز إلى صدره عامة صبغت لصبغة البيئة.
المذيع: يعني فإذا طبقنا هذه القواعد النفسية في دراسة اللاشعور، نجد فيها أصالة شخصية قيس؟
الدكتور عباس العباسي: قيس كان يتمتع بحساسية قوية فنية، وهو يلوذ بفنّه في حرمانه من حبه ويجد في التعبير عن آلامه في شعره استرواحاًً من الجهد القاتل. فهو يقول:

وما أشرف الايفاع الا صبابة

ولا أنشد الاشعار الا تداويا

فإن تمنعوا ليلى وتحموا بلادها

علي، فلن تحموا علي القوافيا

المذيع: وهل تعلقه بالظباء (الغزلان) من دوافع عالم اللاشعور؟
الدكتور عباس العباسي: إن تشبيه المحبوب (الحبيبة) بالظبية مألوف في الادب العربي والادب الفارسي أيضا، لكنه عند قيس وبهذا التعبير الصادق الملح ينم عن نقل شعوره بجمال ليلى الحبيس المحروم إلى نظير لهذا الجمال في البيئة، تنفيسا عن حرمانه. فهو يخلص الظباء من أشراك الصيد، يفتديها من الصائد.
المذيع: ألم يكن نفوره من صيد الغزال زهداً في لحم الحيوان كما أوله الصوفية فيما بعد؟
الدكتور عباس العباسي: لا أظن ذلك لأنه يذكر السبب في شعره فهو يقول لصائد الخشف وهو الغزال:

ألا أيهذا القانص الخشف خله

وإن كنت تأباه فخذ بقلائصي

خف الله لا تقتله إن شبهته

حياتي وقد أرعدت مني فرائصي

انظري فهو يفتدي الظبية بقلائصه وهي جمع قلوض الناقة، ثم يقول له ان هذه الظبية تشبه حياتي اي ليلى.
المذيع: وكيف تفسّر تلك الصورة التي جاءت في شعر قيس عن ذلك الذئب الذي افترس ظبيته امام ناظر قيس إذ قال:

أبى الله أن تبقى لحي بشاشة

فصبراً على ما ساقه الله، لي صبرا

رأيت غزال يرتعي وسط روضة

فقلت أرى ليلى تراءت لنا ظهرا

فما راعني الا وذئب قدانتحى

فأعلق في أحشاءه الناب والظفرا

ففوقت سهمي في كتوم غمزتها

فخالط سهمي مهجة الذئب والنحرا

فأذهب غيظي قتله وشفى جوى

بنفسي إن الحر قد يدرك الوترا


الدكتور عباس العباسي: تفسير هذه القطعة الرائعة التي جمع الشاعر فيها صنعة الافتنان الغزل والحماسة، وبما عرفناه من استغراقه في الحّب الذي استمد باللاشعور للتعويض عن حرمانه، وكما عبر النقاد، بان قيساً هنا أراد بالظبية ليلى وأراد بالذئب (ورداً) الذي اختطف ليلى منه وحرمه منها وافترس أعز أمانيه فهذا الموقف الذي وقفه قيس وهمياً من الذئب ولحماية الظبية، اراد أن يحقق به ما عجز عنه في واقع حياته.
المذيع: وماذا نريد بهذا الاستنتاج النفسي؟
الدكتور عباس العباسي: اثبات وجود شخصية قيس وأصالته في شعره. أعزائنا أشرفت هذه الحلقة على نهايتها، على أمل اللقاء بكم في الجزء الرابع من قصة مجنون ليلى شاكرين للدكتور هذا التحليل الجميل ونرجوا أن نلتقيه واياكم في الحلقه القادمة، نستوعكم الله.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة