أ-شدة خوفه من الله عزوجل:
ومن جملة معالي اموره والصفات البارزة فيه عليه السلام شدة خوفه من الله عز وجل في صباه، فانه وان كان القاريء قد يستغرب مما يقرأ: بأن الامام لما ينظر الى الحطب والنار يبكي خوفاً من الله ثم يغشي عليه وهو صبي، ولكن ليس بغريب ولا بعجيب من أهل العصمة والطهارة عليهم السلام.
روى الشبلنجي عن درة الاصداف قال: وقع للبهلول معه انه رآه وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون فظن انه يتحسر على ما بايديهم فقال له: اشتري لك ما تلعب به؟
فقال: يا قليل العقل ما للعب خلقنا، فقال له: فلماذا خلقنا؟
قال: للعلم والعبادة. فقال: من أين لك ذلك؟ فقال من قوله تعالى «افحسبتم انما خلقناكم عبثاً وانكم الينا لا ترجعون» (1) ثم سأله ان يعظه موعظة فوعظه بابيات ثم خر الحسن رضي الله عليه مغشياً عليه، فلما افاق قال له: ما نزل بك وانت صغير ولاذنب لك؟
فقال: اليك عني يا بهلول اني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تتقد الا بالصغار، واني اخشى ان اكون من صغار حطب جهنم. (2)
وأضاف في احقاق الحق عن كتاب وسيلة المآل الأبيات الذي لم يذكرها الشبلنجي وقال:
ثم قال: فقلت: يا بني أراك حكيماً فعظني وأوجز فأنشأ يقول:
أرى الدنيا تجهز بانطلاق
مشمرة على قدم وساق
فلا الدنيا بباقية لحي
ولا حي على الدنيا بباق
كان الموت والحدثان فيها
الى نفس الفتى فرسا سباق
فيا مغرور بالدنيا رويداً
ومنها خذ لنفسك بالوثاق (3)
ب-زهده عليه السلام:
روى الطبري بسنده عن أبي نعيم، قال: وجهت المفوضة كامل بن ابراهيم المزني الى أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام يباحثون امره.
قال كامل بن ابراهيم: قلت في نفسي أسأله لايدخل الجنة الا من عرف معرفتي وقال بمقالتي. فلما دخلت على سيدي أبي محمد عليه السلام نظرت الى ثياب بياض ناعمة عليه.
فقلت في نفسي: ولي الله وحجته يلبس الناعم من الثياب ويأمرنا نحن بمواساة الاخوان وينهانا عن لبس مثله؟!
فقال مبتسماً: يا كامل بن ابراهيم! وحسر عن ذراعيه، فاذا مسح أسود خشن، فقال: يا كامل!هذا لله عزوجل وهذا لكم فخجلت... (4)
وقفة للتأمل:
ان من أخلاق الامام وشؤونه الخاصة به أن يكون وضعه المادي والظاهري، وخصوصاً في المأكل والملبس، مساوياً مع اضعف الامة لكيلا يوثر الفقر في وجوه بعض المسلمين، الذين كانوا يعانون الفقر المادي، ولما كان غالب المسلمين في بداية الاسلام حالتهم ضعيفة جداً، كان اللازم على أئمة العدل وأهل بيت العصمة ان يلبسوا من الثياب اخشنها ويأكلوا من الطعام اجشبها، كما فعله النبي الكريم صلى الله عليه وآله والامام امير المومنين علي عليه السلام ولكن بمرور خمسين عاماً على ظهور الاسلام، تغيرت الشرايط وتحسن اوضاع المسلمين، ولذلك نرى أن الائمة الذين عاشوا في ذلك الزمان، كالباقر والصادق عليهما السلام مثلاً، تغيرت اوضاعهم من حيث الظاهر، وصاروا كاوساط المسلمين فاننا نرى انهم لم يغيروا ظاهرهم الا بعد التغيير الذي حصل في عامة المسلمين، ولو أنهم لم يفعلوا ذلك وبقوا على لبس تلك الالبسة التي كان يلبسها جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وامير المومنين علي بن ابي طالب عليه السلام لاعرض عامة الناس عنهم، ولاتهموهم بالرهبانية التي أبطلها الاسلام ولكن رغم هذا التغيير في الظاهر لم يتركوا سنة الانبياء والاولياء المقربين، وكانوا يلبسون الثياب الخشنة ملاصقة للبدن تحت الثياب الناعمة ولم يشعر بذلك احد.
وكان هذا العمل منهم تماماً في مقابل المرائين، كالثوري وعباد البصري (5) وغيرهما من المتزهدين المتصنعين الذين كانوا يلبسون الثياب الخشنة في الظاهر والثياب الناعمة تحتها لخداع العامة ونتيجة خداع هولاء المرائين تخيل بعض الغفلة والجهلة بان الاسلام الصحيح هو ما يعرضه الثوري وامثاله ولذلك اخذ ينتقد الائمة، وخصوصاً الامام العسكري وان لم يظهره وكان يخفيه في النفس فقط ويقول: كيف يجوز للامام ان يلبس الثياب الناعمة،ويترك طريقة هؤلاء المتزهدين؟
تخيل هذا المعنى،كامل بن ابراهيم حنيما دخل على الامام العسكري، فاضطر الامام عليه السلام ان يدفع الشبهة التي حصلت في ذهن كامل وامثاله، مما رآه من هؤلاء المتزهدين، وما رآه من الامام عليه السلام، ولذلك نرى الامام عليه السلام يكشف عما كان مستوراً من كل أحد، ويرى كامل ذلك الثوب الخشن الذي كان قد لبسه تحت ثيابه، كي ينتبه بأن امثال الثوري ليسوا على الطريقة المستقيمة بل هدفهم اغواء الناس فقط.
ج-عباداته عليه السلام:
واما عباداته عليه السلام، فهو أظهر من الشمس واشهر من ان يذكر، وقد عرفه الخاصة والعامة بكثرة العبادة والمناجات والابتهال الى الله عزوجل، ليلاً ونهاراً، ويشهد بذلك من حبس معه، بل من تأثر بعبادته ومناجاته من الاعداء والموكلين به.
واليك نماذج منها:
1-عبادته عليه السلام في حبس صالح بن وصيف:
روى المفيد بسنده عن محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن موسى بن جعفر قال: دخل العباسيون على صالح بن وصيف عندما حبس ابو محمد عليه السلام فقالوا له: ضيق عليه ولا توسع. فقال لهم صالح: ما أصنع به وقد وكلت به رجلين شر من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام الى أمر عظيم ثم امر باحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ماشأنكما في امر هذا الرجل؟
فقالا: ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله، لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فاذا نظرنا اليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لانملكه من انفسنا،فلما سمعوا ذلك- العباسيون- انصرفوا خائبين. (6)
2-عبادته عليه السلام في حبس النحرير:
وعنه عن الكليني عن علي بن محمد عن جماعة من اصحابنا قالوا: سلم ابو محمد عليه السلام الى نحرير، وكان يضيق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته اتق الله فانك لا تدري من في منزلك، وذكرت له صلاحه وعبادته وقالت: اني أخاف عليك منه، فقال والله لأرمينه بين السباع، ثم استأذن في ذلك، فاذن له. فرمى به اليها فلم يشكوا من اكلها، فنظروا الى الموضع ليعرفوا الحال فوجدوه عليه السلام قائماً يصلي وهي حوله، فامر باخراجه الى داره.(7)
3-الشاكري يصف عبادته عليه السلام:
وقال محمد الشاكري: كان استاذي اصلح من رأيت من العلويين والهاشميين، ما كان يشرب النبيذ، وكان يجلس في المحراب ويسجد، فانام وانتبه وانام وانتبه، وهو ساجد. (8)
4-تأثير الامام على علي بن نارمش:
وروى الكليني بسنده عن محمد بن اسماعيل قال: حبس ابو محمد عند علي بن نارمش وهو انصب الناس واشدهم على آل أبي طالب وقيل له: افعل به وافعل، فما اقام عنده الا يوماً حتى وضع خديه له، وكان لا يرفع بصره اليه اجلالاً واعظاماً فخرج من عنده وهو احسن الناس بصيرة، واحسن الناس فيه قولاً. (9)
5-عباداته عليه السلام في حبس علي بن جرين:
لما حبس المعتمد الامام عند علي بن جرين في سنة ستين ومأتين، كان يسأل علياً عن اخباره في كل وقت، فيخبره انه يصوم النهار ويصلي الليل. (10)
6-صومه عليه السلام في السجن:
وعن أبي هاشم الجعفري قال: كنت في الحبس المعروف بحبس صالح بن وصيف الاحمر، انا والحسن بن محمد العقيقي ومحمد بن ابراهيم العمري وفلان وفلان اذ دخل علينا ابو محمد الحسن واخوه جعفر... وكان الحسن عليه السلام يصوم النهار، فاذا افطر اكلنا معه من طعام كان يحمله مولاه اليه في جؤنة مختومة، وكنت اصوم معه. (11)
المصدر:
- حياة الامام العسكري، المؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي، تاريخ الطبع: 1413 هـ.1371 هـ ش، الناشر: مركز النشر - مكتب الاعلام الاسلامي
1- المؤمنون الآية : 115.
2- نور الأبصار ص 183، الصواعق المحرقة ص207.
3- احقاق الحق ج12، ص473.
4-دلائل الامامة ص273، اثبات الهداة ج3، ص415، غيبة الطوسي ص148.
5- وسائل الشيعة ج3، ص347، وص350.
6- الارشاد ص344، اثبات الهداة ج3، ص406، البحار ج50، ص308.
7- الارشاد ص344، اعلام الورى ص360، البحار ج50، ص309.
8- دلائل الامامة ص227.
9- الكافي ج1 ص508، اثبات الهداة ج3، ص402.
10- مهج الدعوات ص275، وعنه البحار ج50، ص313.
11- اثبات الهداة ج3، ص416.