إخوتنا وأعزتنا المؤمنين الأكارم.. إن هدايات أهل بيت الوحي والرسالة (صلوات الله وسلامه عليهم) قد غيرت الأجواء حينها، ثم غيرت حياة الناس والأجيال فيما بعد إلى يومنا هذا، وإلى ما يشاء الله تبارك وتعالى، في امتداد تاريخي مكتوب له توفيق إلهي خاص، وعناية ربانية رحيمة، ومشيئة رحمانية حكيمة.
وهذه سيرة الإمام الحسين(عليه السلام) مصداق جلي واضح على ذلك فقد كانت ولازالت تترك على الأمة آثارها المباركة، فذو القلوب الحية كلما طالعوا وسمعوا شيئا من السيرة الزاكية الطاهرة لسيد شباب أهل الجنة، تأثروا بحالاته الإيمانية الأسمى، وحالاته التقوية الأنقى، وحالاته العبادية الأزكى، وخصاله الأخلاقية الأعلى.. فاهتدوا بولايته، وازدادوا في مودته ومحبته، وترسخ اعتقادهم بإمامته.
في صباه الطاهر المطهر مر الحسين هو وأخوه الحسن (عليهم السلام) على شيخ يتوضأ ولايحسن وضوءه، فلم يخدشوا شعوره، ولم يحرجوه أو يخجلوه، ولم يخطئوه، بل أخذا في التنازع الظاهري أمام ذلك الشيخ، كل يقول لأخيه: أنت لاتحسن الوضوء؟! ثم التفتا إلى الشيخ وقالا له: "أيها الشيخ، كن حكما بيننا، يتوضأ كل واحد منا". فتوضئا، ثم سألاه: "أينا يحسن"؟! أي وضوءه، فانتبه الشيخ إلى حال نفسه، فكان صريحا مع ربه ومعهما، إذ قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل، يقصد نفسه، هو الذي لم يكن يحسن، وقد تعلم الآن منكما، وتاب على يديكما ببركتكما، و شفقتكما على أمة جدكما.
أجل، إخوتنا الأعزة، فاهتدى ذلك الشيخ إلى أمرين على أقل الفروض، الأول: هو الأسلوب الحكيم المرفق بمشاعر الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والثاني: هو التعرف على حكم شرعي ضروري في أداء الوضوء الصحيح الذي تترتب عليه صحة جملة من العبادات الشريفة. ولابد، أيها الإخوة الأحبة، كانت للشيخ بعد هاتين الهدايتين هداية ثالثة، وهي تعرفه على إشراقة من إشراقات الإمامة الحسنية والإمامة الحسينية، فازداد ولاء واعتقادا ومحبة وتصديقا بإماميتهما، وتوثق أن الله أعلم حيث يجعل رسالته.
ويقدم على الإمام الحسين أعرابي، فيسأله أبو عبد الله: فيم قصدتنا؟ فيجيبه: قصدتك في دية مسلمة إلى أهلها. فأراد الحسين(عليه السلام) أن يكرمه ويكرمه، بعد أن أعطاه مائتي دينار، حيث قال له: إني أسألك عن ثلاث خصال، إن أنت أجبتني عنها أتممتها خمس مائة دينار، وعلل(عليه السلام) ذلك بقوله: سمعت جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: "أعطوا المعروف بقدر المعرفة". ثم كانت الأسئلة، وكانت الأجوبة، حتى كان جو من العلم والأنس معا، ثم كان من الإمام الحسين عطاء وتكريم، جعلا ذلك الأعرابي يطفح مودة لأهل البيت وهداية، فأنشأ يقول:
فأنت الهمام.. وبدر الظلام
ومعطي الأنام إذا أملقوا
سبقت الأنام إلى المكرمات
فقصر عن سبقك السبق
وأنت سبقت إلى الطيبات
فأنت الجواد وما تلحق
بكم فتح الله باب الهدى
وباب الضلال بكم مغلق
إخوتنا الأطياب.. ما ألتقى أحد بأبي عبد الله الحسين(عليه السلام) إلا وغنم منه غنائم عدة، من كرم دنيوي، وآخر معنوي، وثالث أخروي.. وأثر فيه ذلك التأثير الأخلاقي، والقلبي والروحي...روي أن رجلا جاء إلى الإمام الحسين (عليه السلام) كان مبتلى وقد طلب الخلاص مما هو عليه، فوجد في الإمام أملا، فقال له: أنا رجل عاص ولا أصبر عن المعصية، فعظني بموعظة.. أجل، لقد أحسن هذا الرجل إلى نفسه حقا إذ إختار الإمام الحسين واعظا شافيا لحاله، منقذا له من ورطته، هاديا له إلى سبيل النجاة والرحمة، فما كان من أبي عبد الله (سلام الله عليه) إلا هذه التنبيهات التي يفيق لها كل غافل عن الحقائق الحقة، فقال(عليه السلام) لهذا الرجل: "إفعل خمسة أشياء، وأذنب ما شئت. فأول ذلك: لاتأكل رزق الله، وأذنب ما شئت! والثاني: أخرج من ولاية الله، واذنب ما شئت! والثالث: أطلب موضعا لايراك الله، وأذنب ما شئت! والرابع: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك، وأذنب ما شئت! والخامس: إذا أدخلك مالك في النار، فلاتدخل في النار، وأذنب ما شئت!". فصحا الرجل وتاب، واهتدى بالحسين... ووفد أعرابي غريب على المدينة، فسأل: من أكرم الناس فيها؟ فدل على الحسين، فذهب إليه، ووقف بإزائه منشئا:
لم يخب اليوم من رجاك ومن
حرك من دون بابك الحلقة
أنت جواد.. وأنت معتمد
أبوك قد كان قاتل الفسقة
لولا الذي كان من أوائلكم
كانت علينا الجحيم منطبقة
فأكرمه الحسين(سلام الله عليه)، ثم نزع برديه ولف الدنانير فيها، وأخرج يده من شق الباب حياء من ذلك الأعرابي منشئا:
خذها.. فإني إليك معتذر
واعلم بأني عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا الغداة عصا
أمست سمانا عليك مندفقة
لكن رب الزمان ذو غير
والكف مني قليلة النفقة
فأخذها الأعرابي وبكي، فسأله الحسين(عليه السلام): "لعلك استقللت ما أعطيناك"! قال الأعرابي: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك؟!! ذلك تساؤل من كان قد اهتدى بالحسين!
مستمعينا الأفاضل.. ونختم هذا اللقاء مع الهدايات الحسينية بكلمة مؤثرة تنطلق من المنطلق نفسه الذي ظهر في ذلك الأعرابي الذي ملأ كرم الإمام الحسين قلبه حبا له(عليه السلام) فطفق يتحسر على أن يضمه(عليه السلام) قبر يخفي جوده.. .
فالحسين لم يضمه قبر بل فتح على مدى الأجيال القلوب على محبته.. وكان ذلك سر اهتداء الكثيرين ومنهم الشاب المسيحي البغدادي فادي متي.. في أيام زيارة الأربعين الحسينية من شهر صفر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة وصل هذا الشاب المسيحي إلى كربلاء المقدسة لكي يعلن في الروضة الحسينية المباركة إسلامه واعتناقه مذهب أهل بيت النبوة (عليهم السلام).
هذا الشاب الذي أصبح اسمه بعد إسلامه (علي فادي متي).. جاء إلى كربلاء مشيا على الأقدام أسوة بالملايين من المسلمين الذين يأتون إلى زيارة الأربعين سيرا على الأقدم.. قال علي فادي بعد لقائه بممثل المرجعية الدينية في الروضة الحسينية: إنني قررت أن أسير مشيا إلى كربلاء وأن أسلم عند ضريح الإمام الحسين في ذكرى الأربعينية التي سمعت عنها الكثير وعن عظمة ثوابها وأجرها… لقد انشرح صدري للإسلام خلال هذه الزيارة وأنا أشاهد هذه الجموع الغفيرة الزاحفة صوب كربلاء.. عندها قررت أن أؤدي الصلاة مع المصلين.. فتوجهت إلى أحد المواكب وعلموني كيفية أداء الصلاة وجاءوا بي إلى ممثل المرجعية الدينية في العتبة الحسينية سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي.. لكي أشهد الشهادتين بالحضرة الحسينية.. لقد كان للمنبر الحسيني أثر كبير على تفكيري بإعتناق الدين الإسلامي.. إضافة إلى أن إسلام أختي قبلي بشهرين كان دافعا أيضا لي لاعتناق الإسلام في الحضرة الحسينية.
وبهذا تنتهي أيها الأطياب حلقة أخرى من برنامج (بالحسين اهتديت) إستمعتم لها من صوت الجمهورية الإسلامية في إيران تقبل الله منكم جميل، المتابعة ودمتم في رعايته سالمين.