هذه الجريمة البَشِعَة التي وثّقها أحد المارّة بكاميرا هاتفه المحمول أعادت فتح مِلف الاضّطهاد الذي يتعرّض له المُواطنون السّود على أيدي الشرطة، وبعض مؤسّسات الدولة، رغم مُرور عامًا أو أكثر على إلغاء قوانين التّمييز العُنصري، فالفوارِق ما زالت موجودةً، رغم أنّ السّود أصبح منهم رئيسًا (باراك أوباما)، ووزيريّ خارجيّة (كونداليزا رايس وكولن بأول)، ومُستشار أمن وطني (سوزان رايس).
الإحصاءات الرسميّة تُفيد أنّ عُمر الأمريكيّ الأسود أقل من نظيره الأبيض بسِت سنوات، وأنّ نسبة السّود في السّجون الأمريكيّة أكثر بـ 43 بالمِئة رغم أنّهم يُشكِّلون 13 بالمِئة من مجموع السكّان، ولا يُوجَد منهم إلا سيناتورين من مجموعِ مئةٍ من مجلس الشّيوخ و44 نائبًا في مجلس النوّاب الذي يزيد تِعداده عن 435 نائبًا.
وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عبر أصوات العُنصريين البِيض، وبسبب تبنّيه لأجنداتهم، وتهجّمه على الرئيس باراك أوباما ومُطالبته بالعودة إلى كينيا، مسقط رأس والده، والتّشكيك في شهادة مِيلاده، وحملاته ضدّ المُهاجرين والمُسلمين منهم خاصّةً، كلّها أسباب أدّت إلى تفاقم مُمارسات التّمييز العنصريّ في دولةٍ تدّعي أنّها زعيمة المُساواة والحريّة في العالم.
شخصيًّا أُصبت بحالةٍ من الغضب وأنا أُشاهِد الشّريط الذي انتشر مِثل النّار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي ويُوثِّق جريمة القتل البَشِعَة هذه بالصّوت والصّورة، خاصّةً الجُزء الذي يتَوسّل فيه الضحيّة جورج فلويد جلّاده الأبيض قائِلًا بصوتٍ خافتٍ مُتألِّمٍ “رُكبَتك فوق عُنقي.. لا يُمكِنني التنفّس.. إنّني أختنق.. أمّي.. أمّي ثم يختفي الصّوت ويتوقّف صاحبه عن الحِراك مُفارِقًا الحياة.
ترامب بدا مُؤيِّدًا لهذه الجريمة من خِلال أحدث تغريداته التي قال فيها "عندما تبدأ عمليّات السّطو يبدأ إطلاق النّار"، وكأنّه يُحرِّض الشّرطة على قتل المُشاركين بالاحتِجاجات وأعمال العُنف في منيابوليس لليوم الثّالث على التّوالي.
لم نُجافِ الحقيقة عندما وصفنا ترامب بأنّه غورباتشوف أمريكا الذي سيَبذُر بُذور تفكيكها بسِياساته العُنصريّة الحمقاء البغيضة، وانحِيازه للعُنصريين البِيض الذين أوصلوه إلى قمّة الحُكم، فهذه هي المَرّة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة التي يتولّى فيها السّلطة زعيم يحتَرِف الكذب، ويُطالب أنصاره في الولايات التي يحكمها ديمقراطيّون بكسر القانون والنّزول إلى الشّوارع للتّظاهر ضِدّ إجراءات الحجر الصحّي المُتّخذة لمُكافحة انتِشار فيروس الكورونا القاتل.
قبل خمسين عامًا رفضت السيّدة الأمريكيّة السّوداء روزا باركس مُغادرة مِقعَدها المُخصّص للبِيض في مُقدّمة الحافلة، والعودة إلى المقاعد الخلفيّة استجابةً لأمر السّائق، وتعرّضت للاعتِقال من قِبَل الشّرطة لاحقًا، وفجّرت قضيّتها ثورةً عارمةً للمُواطنين السّود في الجنوب الأمريكيّ، أدّت إلى إلغاء هذا القانون العُنصريّ، ولا نَستبعِد أنْ تُؤدِّي جريمة خنق جورج فلويد البَشِعَة إلى ثورةٍ مُماثلةٍ ضِدّ عودة العُنصريّة في أبشع صُورها على يد دونالد ترامب والمجموعة المُحيطة به، وإسقاطه في الانتِخابات الرئاسيّة المُقبِلَة، وتغيير الكثير من القوانين العُنصريّة غير المُباشرة، وتجسيد المُساواة الحقيقيّة بين المُواطنين الأمريكيين.
عبد الباري عطوان/رأي اليوم