ومن خلال ذلك، نفهم معنى الشّخص المبارك، فهو ليس الإنسان الحامل للأسرار الخفيّة التي تدفع الناس إلى لمس ثيابه وجسده، أو الطلب إليه أن يضع يده على رؤوسهم ليأخذوا منه البركة، بل هو الإنسان الذي يعيش الطاقة الروحيّة التي تحرّك فيه كلّ إمكاناته، لينشرها على النّاس والحياة من حوله، لتنطلق خيراً ورحمةً ومحبّةً وسلاماً، في نفعٍ شاملٍ غير محدودٍ، كما ورد في تفسير قوله تعالى، في حديث عيسى (ع) عن نفسه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً}[مريم: 31]. فقد جاء في التفسير أنّ معناه: وجعلني نفّاعاً للناس من خلال ما توحي به البركة من امتداد للطّاقة في حياة الناس.
وهكذا نفهم معنى الأرض المباركة، في ما تعطيه من خيرات على مستوى الثّمرات الماديّة التي تنتجها، أو على مستوى الثّمرات الروحيّة التي توحي بها على خطّ الرّسالات والرسل الذين تحتويهم في كلّ زمان...
وبذلك نفهم سرّ التعبير في قوله تعالى: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} بدلاً من «باركناه»، فقد يكون السرّ في ذلك، هو الإيحاء بأنّ البركة لا تتجمّد في المسجد وتبقى فيه، ليأتي النّاس إليه للحصول على البركة من أرضه وجدرانه، بل تنطلق منه من خلال ما تمثّله رسالته من المسؤوليّة النابضة بالروح، والمتحرّكة مع الواقع، لتمتدّ إلى كل مكان، فتتحوّل البركة من نبع يتحرّك داخل الأرض، إلى نهر جارٍ ينساب في كلّ عقل وفي كلّ روح، ويصل إلى كلّ أرض فيها للإنسان وجود، ليملأها بالخير والمحبّة والحياة. ومن الطبيعي لهذه البركة المحيطة بالمسجد أن تكون منطلقة منه، ما يعني أنّ التعبير يختزن في داخله معنى البركة في المسجد، لما يوحيه من معنى البركة في ما حوله، والله العالم.
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن".