بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرحمة المهداة الى العالمين محمد واله الطاهرين
مستمعينا الكرام متابعي برنامج نهج الحياة السلام عليكم و رحمة الله وبركاته يسرنا أن نلتقي بكم عبر حلقة اخرى من حلقات هذا البرنامج لوقفة متأنية أخرى عند ايات أخر من الذكر الحكيم و هي الايات الخمسون حتى الرابعة والخمسين من سورة الروم المباركة .
بداية نشنف الأسماع بتلاوة الايتين الخمسين والحادية والخمسين من هذه السورة المباركة .
فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّـهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٥٠﴾
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ﴿٥١﴾
الكرام جري الحديث في الحلقة الماضية عن الرياح المباركة التي كانت مبشرات بالغيث والرحمة الالهية ، والتي تبعث الحياة للارض و من عليها . و في الاية التي استمعنا اليها قبل قليل ثمة تلويح بأن الرياح والامطار لا تخضع لاوامر احد الا الله تعالى . فلو اراد الله أن تكون الامطار سببا لرحمة العباد و أهل الارض فانها تحي الارض بعد موتها فيشهد الانسان نضارة الطبيعة وجمالها في فصل الربيع بعد ما دخلت في سبات عميق في فصل الشتاء . إنها نسائم الربيع وأمطاره التي أرادها الله أن تبعث الحياة من جديد للارض و اهلها . ولو شاء الله عكس ذلك لتحولت تلك الرياح و الامطار الى معول يهدم الزرع و الاشجار والنخيل لتكون مصفرا يابسا لان الله تعالى شاء للرياح ان تكون كذلك .
أما الناس المستقبلون لتلك الرياح على قسمين فمنهم مؤمنون صادقون يستبشرون بنعمة الله و يشكرون الله عليها ، وعند نزول المصائب والمشاكل تراهم صابرين محتسبين، ولا يؤثر توالي النعم المادية او ايقافها في إيمانهم أبداً، وليسوا كعمي القلوب ضعيفي الإيمان، الذين يظهرون إيمانهم بمجرّد هبوب الريح التي تأتي بالبشارة و الخير ، ويكفرون مرّة أُخرى إذا هبت الريح لغرض اخر .
ان المتأمل في هذه الايات يجد:
- إن القران يعتبر المطر مصداقا للرحمة الالهية التي تسبب الحياة لأهل الارض .
- إن نزول المطر والحياة المتجددة للأرض دليل على قيام الساعة لقوله تعالى :" يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى " فمشهد الموت والحياة يتكرر أما أعين البشر في كل لحظة ،
- ان من لم يرب نفسه لمواجهة المشاكل والصعاب ولم يقو ايمانه بالله تعالى سينتهي مصيره بفقدان الامل وبالتالي الكفر بالله تعالى . و هذا ما يدل عليه قوله تعالى : لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ" .
و الان احبتنا دعونا ننصت الى الايتين 52 و 53 من سورة الروم المباركة :
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴿٥٢﴾
وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ۖ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴿٥٣﴾
احبتنا الاكارم هاتان الايتان تقسمان الناس إلى أربعة طوائف:
الطائفة الاولي هي طائفة "الموتى" الذين لا يدركون أية حقيقة، وإن كانوا أحياءً في الظاهر! والطائفة الثانية طائفة "الصُم" الذين هم غير مستعدين للإستماع إلى الكلام الحق. والثالثة هي طائفة "العمي" الذي حُرموا من رؤية الحق و الحقيقة ! وأخيراً طائفة المؤمنين الصادقين الذين لهم قلوب يفقهون بها، ولهم أعين يبصرون بها، ولهم آذان يسمعون بها.
الآية الأولى تخاطب النبي الاكرم (ص) بالقول : (فإنّك لا تسمع الموتى) بمعني ان مواعظك لا تؤثر في أصحاب القلوب الميتة.وكذلك (ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين) .وتأتي الآية الثّانية لبيان بقية الطوائف فتقول للنبي (ص): (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلاّ من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون).
فإنّ القرآن يتحدث هنا عما هو أفضل من الحياة المادية وموت الابدان وأفضل من السمع والبصر الظاهريين فهو يشير الي نوع اسمى من الموت والسمع والبصر المعهود في هذه الحياة ، حياة حقيقية تكمن فيها سعادة الإنسان أو شقاؤه!
فالقرآن لديه معيار لتقييم هذه الأمور، لا بالقيمة المادية والدنيوية، بل القيمة المعنوية والإنسانية.
والان وقفة سريعة مع الدروس المستنبطة من هاتين الايتين :
- لإدراك الحقيقة يجب أن يكون للإنسان قلب مهيأ ومستعد، وعين باصرة وأذن سميعة، وإلاّ فلو اجتمع جميع الأنبياء والأولياء وتلوا جميع الآيات الإلهية على من لا يدرك الحقيقة بسبب ما اقترفه من الذنوب والاصرار عليها ، فإنها لن تؤثر فيه .
- لمعرفة الحقائق الايمانية لا يكفي للانسان امتلاك السمع والبصر والعقل . بل انه بحاجة الى نفسية تتقبل الحق و تبحث عن الحق لتسمعه اينما وجده .
- تشيرعبارة " مُدْبِرِينَ " في قوله تعالى " فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ"الى ان حالة الاعراض عن الحق لدى هؤلاء أصبحت حالهم وصفة تلازمهم وهي سيرة مستمرة لديهم و من الصعب جدا تركها .
- إن مهمة الانبياء ابلاغ الرسالة إلى الناس و إرشادهم إلى الطريق الصواب و ليس إلزامهم على قبول الهدى واتباعه .
- لا يكفي الايمان وحده بل التسليم لامر الله شرط ضروري .
حسنا احبتنا الاكارم والان نصغي بمسامع القلوب الي الاية 54 من سورة الروم :
اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴿٥٤﴾
لقد استعرضت ايات هذه السورة المباركة بعضا من النعم الالهية التي ترشد الانسان الى حقيقة التوحيد فتأتي الاية التالية لتكمل البحوث التي تدور حول التوحيد في هذه السورة، فيقول: (الله الذي خلقكم من ضعف ثمّ جعل من بعد ضعف قوة ثمّ جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة).
ان الاية بصدد ترسيم لوحة فنية للانسان تذكره بالضعف والهوان الذي عاشه في فترة الطفولة وكذا القدرة والطاقة التي حصل عليها و هو في ريعان شبابه و زهور عمره الى ان يصل الى الشيخوخة والكهولة حيث الضعف والهوان . فهي مراحل يمر بها الانسان دون اختيار من عنده بل كل ذلك تقدير العزيز العليم . فلو كان للانسان الخيار في ترسيم مراحل عمره فلم يكن احد منهم يختارالضعف والشيخوخة و زوال تلك الطاقة والحيوية التي تمتع بها في شبابه . اذن فالطاقة الشبابية هي الاخرى ليست ملكا للانسان ليحافظ عليها متى ما شاء . بل انها مرحلة عمرية تمر وتزول .
و الان الى الدروس المستوحاة من الاية المباركة :
- ان حياة الانسان تبدء بالضعف و تنتهي به . فالانسان يقع بين مرحلتين من الضعف فلابد من ان يعرف قيمة ايام شبابه و قوته و ان يستثمر تلك المرحلة افضل استثمار و أن لا يغتر بقدرته وطاقته في تلك الفترة لانه جاء من الضعف ويتقدم نحو مرحلة الضعف ايضا .
- ان مراحل الضعف والقوة في حياة الانسان خاضعة لتدبير الالهي حكيم وهذا المعني يستفاد من تكرار كلمة " جعل " في الاية .
الى هنا نصل الى ختام وقفتنا هذه عند ايات مباركة من سورة الروم سائلين الله تعالى بان يوفقنا جميعا للتدبر في القران الكريم والاخذ من عطاءاته المباركة امين و اخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين حتى الحلقة القادمة نستودعكم الله الذي لا تضيع عنده الودائع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .