بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين...
تحية لكم مستمعينا الأفاضل، وأهلاً بكم في هذا اللقاء الجديد من برنامج نهج الحياة، والذي سنواصل فيه رحلتنا مع سورة الشعراء، ساعين الى تقديم فهم مبسط لآياتها الكريمة.
لنبدأ، حيث انتهينا في الحلقة السابقة عند الآيتين الحادية والعشرين والثانية والعشرين، بالإستماع الى تلاوتهما:
فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿٢١﴾
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿٢٢﴾
تطرقنا خلال لقائنا السابق، الى أن الله تعالى، كلف موسى بالذهاب بمعية أخيه هارون، الى فرعون ودعوته الى الكف عن ظلم الناس، والى رفع حالة الإستعباد التي فرضها على بني اسرائيل.
غير أن فرعون سعى الى التهرب من الدخول في حوار جاد مع موسى في هذه القضية... محتجاً بمقتل أحد أتباعه على يد موسى... وممتناً عليه برعايته صغيراً، مذ أعثر الله عليه آل فرعون.
محاولة فرعون هذه، كانت تستهدف في الواقع تجريم موسى، والإساءة المعنوية لشخصيته... وتمرير هذا الإيهام، من شأنه تركيز فكرة أراد فرعون إيحاءها، وهي إدعاء موسى النبوة، من خلال التباين الواضح بين شخصية النبي وشخصية القاتل أو الناكر للجميل.
...في هاتين الآيتين يواصل موسى فضح المحاولة الفرعونية...
فأمام شخصية القاتل، التي حاول فرعون رسمها لموسى، يظهر (ع) شخصاً مهدداً، مفتقداً الشعور بالأمن، مما ألجأه الى الفرار بحثاً عن ملاذ آمن... وفي مدين، حيث استقرت به دار الهجرة، منحه الله العلم واتخذه رسولاً وكلفه بمهمة تحرير بني اسرائيل...
وإزاء القضية الأولى التي أثارها فرعون، قضية احتضان موسى ورعايته صغيراً... وضع موسى القضية في إطار الحقيقي... إذ بدأ فرعون الذي صوّر نفسه ممتننا بإيواء موسى، ليس أكثر من سفاح مستبد، يختطف الأطفال من أحضان أمهاتهم ليقتلهم... وكأنه أراد أن يقول لفرعون أن الشخص الذي تقول أنك ربيته، إنما هو أحد ضحاياك...!
ونستفيد من هاتين الآيتين الشريفتين:
- ان الإبتعاد عن الأنظمة الفاسدة الظالمة والهجرة في الأرض، يفتح أمام المهاجر فرصاً واسعة، ويتيح له الله عزوجل من ألطافه الشيء الكثير...
- اختيار الله تعالى لرسله وتزويدهم بالعلم والبصيرة الكافية لإرادة مهمتهم الرسالية، ودعوة الناس الى طريق الحق؛ لا يتم إلا على أساس امتلاك الأنبياء المسبق للإستعداد الكامل الذي يخولهم حمل هذه الأمانة وأداءها.
- ان المن على الناس، سمة الأنظمة الطاغوتية المستبدة... اما الأنظمة الإلهية فتسعى الى خدمة الناس، وحل مشاكلهم...
مرة أخرى ندعوكم الى القرآن الكريم... لنستمع الى تلاوة الآيتين الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين من السورة نفسها:
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴿٢٤﴾
فرعون الذي جوبه بجواب متين ومستدل من قبل موسى، لم يكن أمامه من مفر إلا العودة الى أصل الموضوع والتساؤل بطريقة لئيمة:
وما رب العالمين؟ ...وجاء رد موسى (ع) سريعاً، يفرغ فرعون من كل إدعاءاته (أنا ربكم الأعلى)...
رب السماوات والأرض وما بينهما... أي خالقهما ومدبرهما...
هذه السماء العريضة بعظمتها... وهذه الأرض الواسعة، وتنوع الكائنات التي تعيش على ظهرها... كلها وكلها من إبداع الله تبارك وتعالى..! ان كنتم موقنين... هذا المقطع الأخير من الآية الرابعة والعشرين، حمل – على قصره – دلالة كبيرة... وكأنه يخاطب فرعون قائلاً:
إذا كنت جاداً في البحث عن الحقيقة... ومستعد لأعمال فكرك في نظام الكون العجيب، لتيقنت الى ان لهذه الآثار المدهشة وهذا النظم البديع خالقاً أحداً فرداً...!
ونستفيد من هاتين الآيتين:
- ان على العلماء والمبلغين الإسلاميين وجميع الرساليين العاملين في الميادين التي تتطلب منهم صياغة الردود على أسئلة الناس والشبهات المثارة على القضايا الإعتقادية؛ ان تكون إجاباتهم واضحة وقائمة على أساس الدليل.
- خلافاً لعقيدة المشركين بتعدد الإلهية، فالكون وما فيه – وفقاً لرؤية الأديان الإلهية – هو من إبداع خالق واحد هو الله تعالى الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا شبيه...!
- ان أهل الإيمان واليقين، تترسخ لديهم قضية الإيمان بربوبية الله وقدرته، كلما قلبوا أبصارهم في هذا الكون الفسيح وعجائبه وآياته.
...نتابع لقاءنا القرآني هذا بتلاوة الآيتين الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين، فلنستمع معاً.
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿٢٥﴾
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿٢٦﴾
صراحة جواب موسى (ع) وقاطعيته بدحض ربوبية فرعون، وإعلان الرب الحقيقي، أغاضت فرعون، ودفعته الى اللجوء الى حاشية، وكأنه يبحث عندهم المواساة والعزاء...!
الا ان موسى (ع) لم يمهلهم، بل واصل القاء كلماته القوية النافذة... مخاطباً الرب المزيف وفريقه: بأن ربه هو ربكم ورب آبائكم...!
وتعلمنا هاتان الآيتان ان:
- الأنظمة الطاغوتية، لا تمتلك – إزاء كلمة الحق – غير إثارة الضجيج من أجل التغطية على زاقعها البائس.
- ان تكون بأجمعه... بما فيه من سماء وأرض ومخلوقات؛ يخضع لتدبير الله تعالى، وربوبيته التي يبسطها على جميع مخلوقاته على سواء.
نرجو ان تكونوا قد وجدتم فيما قدمناه، بعض الفائدة... وحتى نلتقيكم ثانية – مستمعينا الأكارم – نترككم بحفظ الله ورعايته.. وفي أمان الله.