بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نور الأنوار وصفوة الأخيار مولانا أبي القاسم محمد وأهل بيته المنتجبين الأبرار، السلام عليكم حضرات المستمعين الكرام، ها نحن وإياكم مرة أخرى في ظلال آيات الله الحسنى نغترف من نميرها ونعيش في معانيها، وكنا في تفسيرنا لسورة مريم المباركة قد إنتهينا إلى الآية التاسعة والعشرين، حيث نستمع إليها والآية الثلاثين وهي قوله تعالى:
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴿٢٩﴾
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴿٣٠﴾
العذراء مريم سلام الله عليها، لما وضعت عيسى عليه السلام أتت قومها تحمله فقالوا لها يا أخت هارون ما كان أبوك إمرء سوء وما كانت أمك بغياً، فأنى لك هذا الولد؟ ولم يأت الجواب على هذا السؤال من مريم (س) بالألفاظ، بل بالإشارة إلى وليدها على أن القوم إشتد غضبهم لما رأوا من مريم (س) سكوتاً وقالوا لها كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟ لكن بقدرة الله تعالى نطق عيسى عليه السلام وهو في المهد، حيث قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً. أجل، لقد بعث الله عيسى (ع) إلى بني إسرائيل والملاحظ أن عيسى (ع) أقر بأنه عبد من عباد الله، إلّا أن أتباعه من المسيحيين يغالون فيه ويرونه إبناً لله!
والمستفاد من هذا النص الشريف:
- إذا كان المرء طيب السريرة، تقي الثوب فإن وليده بإذن الله يدافع عنه ويدرأ الشبهات عنه.
- إن مقام الرسالة ومنزلة النبوة هما من نتائج العبودية الخالصة لله تعالى.
والآن نستمع إلى تلاوة الآيتين الحادية والثلاثين والثانية والثلاثين من سورة مريم (س):
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴿٣١﴾
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴿٣٢﴾
نعم، سيدنا عيسى عليه السلام وهو في المهد أعلن عن نبوته ورسالته، وجاء على لسانه سلام الله عليه وأوصاني، أي الله تعالى، بالصلاة والزكاة ما دمت حياً؛ إن عيسى عليه السلام هو منبع فياض للخير والبركة، ليس في زمان حياته المباركة وحسب، بل وفي كل زمان.
والذي نأخذه من هذا النص الشريف:
- إن الصلاة والزكاة هي من المشتركات بين الأديان ولا تخص الدين الإسلامي وحده.
- من أخلاق الأنبياء، الإحسان إلى الوالدين لا سيما الأم، ألم يقل المسيح عليه السلام (وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً)، ومن بعض الروايات أن أعظم الناس حقاً على الإنسان الأم.
ويقول تعالى في الآيتين الثالثة والثلاثين والرابعة والثلاثين من سورة مريم المباركة:
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴿٣٣﴾
ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴿٣٤﴾
إن حياة نبي الله عيسى على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام، هي حياة مليئة بالمعجزات، أجل، عيسى (ع) تكلم وهو في المهد ودرأ عن أمه العذراء الشبهات وأخبر الناس أنه نبي الله تعالى، لا بل وأكثر من ذلك، فقد تحدث عن موته بعثه، سلام الله عليه.
إنه (ع) أراد أن يثبت بذلك أنه بشر كسائر الناس، له مولد وممات وعمر محدود، إن المهم بالنسبة للرسل والأنبياء، صلوات الله عليهم هو سلامة طريق الحياة وعدم الإنحراف عن جادة الصواب وقد ضمن الله تعالى لسفرائه الكرام ذلك، حيث عصمهم من الخطأ والزلل.
نعم، العصمة ضرورية للأنبياء (ع) كي يتبعهم الناس وعلى نهجهم الوضاء يسيرون ولا يترددون، لكن مع هذا كله فالبعض من الناس لا يؤمنون برسالات الأنبياء (ع) إما جهلاً أو لغرض في نفوس مريضة، وكيفما كان فإن الناس، لا كل الناس، قد أفرطوا وفرطوا في الأنبياء (ع)، البعض أوصلهم إلى مقام الألوهية، والبعض الآخر جعلهم دون اسوياء الناس، إذ لصق بهم تهمة السحر والجنون؛ إن الأنبياء (ع) هم من البشر أوحي إليهم كي يبلغوا شرائع الله إلى الخلائق.
والآن إلى الدروس المستفادة من هذا النص، والتي نوجزها في ثلاث نقاط، هي:
- إن الموت والحضور في محكمة القيامة لا يستثني أحداً من الأنبياء والأولياء سلام الله عليهم.
- كيفية الموت وكيفية البعث يوم الحساب أمر مهم، والمفلحون هم تكون عاقبتهم الحسنى والموت على الإسلام، فلا يفزعهم الفزع الأكبر يوم القيامة.
- إن من رسالات القرآن بيان حقائق الأديان السابقة كي لا ينصرف الناس عن جادة الصواب.
غفر الله لنا ولكم وجعلنا وإياكم على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، والحمد لله رب العالمين والسلام على عباد الله الصالحين.