البث المباشر

ما معنى "تذهل كل مرضعة" حين تقوم القيامة؟

الثلاثاء 26 نوفمبر 2019 - 12:13 بتوقيت طهران
ما معنى "تذهل كل مرضعة" حين تقوم القيامة؟

يقول تعالى في كتابه العزيز: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ}[الحج/2].

في المعنى اللّغويّ: تذْهَلُ: تنسى وتدهش وتغفل عن رضيعها لشدة الهول. الذهول: شغل يورث حزناً ونسياناً، يقال: ذهل عن كذا وأذهله كذا. والذهول: الذهاب عن الشيء مع دهشة، تقول: ذهلت عنه ذهولاً، وذهلت - بالكسر - أيضاً، وهو قليل، والذهل السلو، قال الشاعر:

 

صحا قلبه يا عزَّ أو كاد يذهل...

 

وهذا تهويل ليوم القيامة، وتعظيم لما يكون فيه من الشدّة، على وجه لو كان هناك مرضعة لشغلت عن الذي ترضعه، ولو كان هناك حامل لأسقطت من هول ذلك اليوم، وإن لم يكن هناك حامل ولا مرضعة.

 

وفي "التحرير والتنوير" لابن عاشور قوله: "والذّهول: نِسْيانُ ما مِن شَأْنِهِ أنْ لا يُنْسى، لِوُجُودِ مُقْتَضى تَذَكُّرِهِ؛ إمّا لِأنَّهُ حاضِرٌ، أوْ لِأنَّ عِلْمَهُ جَدِيدٌ وإنَّما يُنْسى لِشاغِلٍ عَظِيمٍ عَنْهُ. فَذُكِرَ لَفْظُ الذُّهُولِ هُنا دُونَ النِّسْيانِ، لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى شِدَّةِ التَّشاغُلِ. قالَهُ شَيْخُنا الجِدُّ الوَزِيرُ قالَ: وشَفَقَةُ الأُمِّ عَلى الِابْنِ أشَدُّ مِن شَفَقَةِ الأبِ، فَشَفَقَتُها عَلى الرَّضِيعِ أشَدُّ مِن شَفَقَتِها عَلى غَيْرِهِ.

 

وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ بِدَلالَةِ الأوْلى عَلى ذُهُولِ غَيْرِها مِنَ النِّساءِ والرِّجالِ. وقَدْ حَصَلَ مِن هَذِهِ الكِنايَةِ دَلالَةٌ عَلى جَمِيعِ لَوازِمِ شِدَّةِ الهَوْلِ، ولَيْسَ يَلْزَمُ في الكِنايَةِ أنْ يُصَرَّحَ بِجَمِيعِ اللَّوازِمِ، لِأنَّ دَلالَةَ الكِنايَةِ عَقْلِيَّةٌ ولَيْسَتْ لَفْظِيَّةً".

 

تتحدّث الآية المباركة عن أهوال يوم القيامة، بحيث لشدّتها، فإن الأمّ يأسرها التفكير بمصيرها الأخروي، فإنّ حتى أقرب المقرَّبين إليها، وهو رضيعها، لا تلتفت إليه أمام ذلك المشهد الذي يهزّ الأعماق ويستأثر بالألباب. وقد جاء القرآن الكريم بصورة بلاغية حية ومناسبة للصورة، على سبيل الكناية التي تجعل المرء يفكّر ويحيا في المشهد وكأنه حاضر الآن أمامه، يقول العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض) في معرض تفسيره للآية المباركة:

 

"{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شيء عَظِيمٌ}، ففي ذلك اليوم زلزال عنيف تهزّ مشاهد الهول والرعب والعذاب فيه النفوس، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} في نتائجها الفظيعة التي تقتلع الإنسان من أعمق مشاعره، وأدقّ مناطق الإحساس لديه، حيث {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عما أَرْضَعَتْ}، عندما تكون في جوّ تنساب فيه مشاعر الأمومة في داخلها، وتعيش فيه الاندماج الروحي مع دفقات الحليب الطاهر من ثديها في الفم الصغير الذي يمثل ابتهال الطفولة الجائعة إلى الأمومة الحانية، طلباً للحب والعطف والحنان والغذاء والشراب، إذ إنّ الأم هي سرّ الحياة منذ انطلاقتها في رحلة النموّ، حتى تكاملها في مرحلة الوجود.

 

ولكن على الرغم مما تشعر به الأمّ في موقف الرّضاع من تفاعل بين روحها ونداء رضيعها، بحيث تحسّ بأن روحها تتحرّك في أحضانها، فلا تغفل عن ابتسامته عندما يبتسم، وعن دمعته عندما يبكي، وما يصنعه ذلك الإحساس من تحول في قطرات الحليب ـ من حيث تدري أو لا تدري ـ إلى قطرات حبٍّ وحنانٍ، إلا أنها يوم القيامة أمام الرعب والخوف، تذهل عنه وعن كلّ ما حولها، وتستغرق في التفكير بمصيرها، فهي تعجز في لحظات الحَيْرة والذّهول عن التفكير إلا في نفسها، لأنّ حدّة المعاناة لا تترك لها أيّ مجال للالتفات إلى أيّ شخص آخر". [تفسير من وحي القرآن، ج 16].

 

وحول الآية، يقول العلامة الشّيخ محمد جواد مغنيّة (رحمه الله): "هذا كناية عن هول السّاعة وشدّتها، حيث لا مرضع ولا حامل يومذاك، وعليه، يكون المعنى لو كان ثمة مرضع لذهلت، أو حامل لوضعت". [التفسير المبين / مغنيّة].

 

هل نتذكّر ونتفكر في جوّ هذه الآية المباركة؟ إنها تستثير كل مشاعرنا وكوامننا، حتى نتدبر في أمور مصيرنا وعاقبة أمورنا، ولا نستغرق في تفاصيل دنيانا ومظاهرها الخدّاعة، وننسى ما ينبغي علينا فعله من أجل بناء الدار الآخرة بالعمل الصّالح والعلم النافع والشعور الذي يحمل الرّحمة والمحبة والحنان.

 

حتى الأم التي هي رمز كل حب وحنان في الوجود، أمام مشهد المصير في الآخرة، لا تلتفت إلى أقرب الناس إليها وألصقهم بمشاعرها، لأن المصير والعاقبة أهمّ ما يمكن للإنسان أن يفكّر فيه ويعمل من أجله، فالعاقبة الحسنة الخالدة للمتّقين الذين لم يؤذوا النّاس والحياة، وحملوا كلّ شعور طيّب وعقل منتج.

 

فلنلتفت إلى عاقبتنا، وننتهز الفرصة المناسبة قبل فوات الأوان، وكما يقول إمام المتقين عليّ (ع): "اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل".

 

محمد عبدالله فضل الله

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة