الحمد لله في الاولين والآخرين، واشرف الصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلن، وعلى آله الهداة الميامين.
اخوتنا المستمعين الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واهلاً ومرحباً بكم في رحاب هذه اللقاءات الطيبة، واحاديث متتابعة نأمل ان تحسن شغاف قلوبنا ان شاء الله تعالى وتنير لنا طريق التخلق بالاخلاق الفاضلة.
تخصيص اللقاء الاول - احباءنا - لخلق حب الضيافة.
الضيافة في اسمى معانيها خلق من اخلاق الله تبارك وتعالى، اذ استضاف مخلوقاته في عالم الوجود، وهو يرزقهم كل يوم في مملكته، كما يستضيف عباده في الطاعات والمناسك آناء الليل والنهار، وكل ساعة وكل آن.. ويستضيفهم في شهره المبارك رمضان، وفي موسم الحج الاكبر عند بيته الحرام.
والمؤمن يتعلم هذا الخلق الرفيع "الضيافة" من بارئه الكريم الرحيم، فيدعوا الى بيته ومائدته اخوانه واحبته، ويستضيف الفقراء والمحوجين، ويكرم المحرومين والمساكين، ويتأسى المؤمن بالانبياء والاوصياء صلوات الله عليهم، فذاك شيخ الانبياء خليل الرحمان ابراهيم عليه السلام، كان اول من اضاف الضيف، حتى كان يسمى "ابا الاضياف"، وحتى اتخذه الله تعالى خليلاً: لاطعامه الطعام، وصلاته بالليل والناس نيام، ولكثرة صلاته على النبي محمد وآله الكرام "صلوات الله عليهم اجمعين".
وللضيافة ـ ايها الاخوة الاعزة ـ شأن كبير اذ بها تعقد الاخوة بين المؤمنين، ويدور خلال لقائهم ذكر الله فيه رضى، ولهم اجر وثواب ومعرفة وفي الضيافة تقضى حوائج الاخوان، ويكرم الفقراء والمحرومون، وتقام مجالس الذكر، ومن هنا نسمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لا تزال امتي بخير: ما تحابوا، وادوا الامانة، واجتبنوا الحرام، واقروا الضيف، واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة.
كل بيت لا يدخل فيه الضيف، لا تدخل الملائكة.
اذا اراد الله بقوم خيراً اهدى اليهم هدية، قالوا: وما تلك الهدية يا رسول الله؟ قال: الضيف.. ينزل برزقه، ويرتحل بذنوب اهل البيت.
ويروي الامام الصادق عليه السلام انه: اتي رسول الله صلى الله عليه وآله ببعض المشركين كانوا قد حاربوا فقدم رجلاً ليضرب عنقه، فقال جبريل: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول: ان اسيرك هذا: يطعم الطعام، ويقري الضيف، ويصبر على النائبة، ويحتمل الحملات. فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ان جبريل اخبرني عنك، عن الله بكذا وكذا، وقد اعتقتك، فقال له الاسير وهو متعجب: وان ربك ليحب هذا؟ قال: نعم. فقال الاسير: اشهد ان لا اله الا الله وانك رسول الله، والذي بعثك بالحق، لارددت عن مالي احداً ابداً.
وبعد ـ ايها الاخوة الاحبة ـ فان للضيافة آدابها.. منها آداب الضيف، وهي: الاستجابة لدعوة المؤمنين، ومراعاة آداب المجلس في الضيافة، والحضور في الوقت المناسب، والتخفيف على صاحب الدار، والدعاء للمضيف، ودعوته في المقابل الى ضيافة مكرمة، والخروج من بيته والقلب معقود على حفظ اسراره.
ومنها ـ ايها الاخوة ـ آداب المضيف صاحب البيت والضيافة، ينبغي ان يراعيها مع ضيوفه، وهي: دعوة المؤمنين من غير ان يفرق بين غني وفقير، ووجيه وبسيط، وحسن الاستقبال ببشر حسن، وتليين الجناح وتطيب الكلام، وفي ذلك يقول الشاعر:
اضاحك ضيفي قبل انزال رحله
ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للاضياف ان يكثر القرى
ولكنما وجه الكريم خصيب
ومن آداب المضيف رفع الحرج والعناء عن ضيفه، وعدم تكليفه او استخدامه، او التعامل معه بما يشق عليه من الالحاح، او التكلف وكثير ما يكون في الضيافة اطعام، ومن آداب الاطعام عرض الماء والوضوء على الضيف، وتعجيل احضار الطعام وتقديمه امامه، وخدمة الضيف بنفس المضيف، ومواكلته وترغيبه في مزيد الاكل، وتحديثه بما تميل اليه نفسه، وتوديعه باكرام واحترام.
فاذا وفق المؤمن الى ذلك، كان هنالك شرف خاص ينتظره يقول امير المؤمنين علي عليه السلام: ما من مؤمن يحب الضيف الا ويقوم من قبره ووجهه كالقمر ليلة البدر، فينظر اهل الجمع فيقولون: ما هذا الا نبي مرسل فيقول ملك: هذا مؤمن يحب الضيف، ويكرم الضيف، ولا سبيل له الا ان يدخل الجنة.
وعن الامام علي عليه السلام ايضاً، قال: ما من مؤمن يسمع بهمس الضيف ويفرح بذلك الا غفرت له خطاياه وان كانت مطبقة ما بين السماء والارض.
وذاك الشاعر المضياف يقول:
الله يعلم انه ماسرني
شيء كطارقة الضيوف النزل
مازلت بالترحيب حتى خلتني
ضيفاً له والضيف رب المنزل
واخيراً.. تعالوا ـ ايها الاخوة الاعزة ـ ننظر ضيافة امير المؤمنين عليه السلام وقد جمع فيها اسمى معاني الايثار والاكرام.. فعن ابي هريرة وابن عباس قالا: جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وآله فشكا اليه الجوع، فبعثه الى ازواجه فقلن: ما عندنا الا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من لهذا الرجل الليلة؟ فقام امير المؤمنين علي سلام الله عليه قائلاً: انا له يا رسول الله.
فاتى عليه السلام فاطمة سلام الله عليها وسألها: ما عندك يا بنت رسول الله؟
فقالت: ما عندنا الا قوت الصبية، لكنا نؤثر ضيفنا، فقال علي عليه السلام: يا بنت محمد صلى الله عليه وآله، نومي الصبية واطفي المصباح.
وجعلا يمضغان بالسنتهما، فلما فرغ الضيف من الاكل، اتت فاطمة بسراج فوجدت الجفنة مملوءة من فضل الله. فلما اصبح الضيف، صلى مع النبي صلى الله عليه وآله، فلما سلم النبي صلى الله عليه وآله من صلاته، نظر الى امير المؤمنين عليه السلام فبكى بكاءاً شديداً وقال: لقد عجب الرب من فعلكم البارحة، إقرأ: "ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون".
الراوي: في حياة البشرية طرائف ولطائف، وحكايات عجيبة، بعضها بقي محيراً للعقول والنفوس، ذلك حينما يرقى المرء الى مستويات رفيعة، يتخلى فيها عن نوازعه المادية، فيجنح نحو المثل العالية والاخلاق السامية.
وكان مما كتب لنا التاريخ، ان رجلاً يعرف باسم "معن بن زائدة"، كان يحارب وينتصر ويظفر بمجموعة من الاسرى وفي احدى معاركه قبض على عدة من الاسرى وقد حاربوه وقتلوا جمعاً من انصاره، فحدث نفسه يقول:
معن: ايه.. لابد ان اعرضهم على السيف، فقد احرقوا قلبي اذ قتلوا انصاري واعواني. "بشيء من الحدة".
الاسير: اصلح الله الامير، نحن بشر مثلك فلا تجمع علينا الجوع والقتل معاً، فوالله ان كرم الامير ليبعد عن ذلك.
معن: لقد قال الحق ايها الحراس احضروا بسرعة طعاماً وشراباً لاسرائكم.
الحراس: سمعاً وطاعة ايها الامير.
الراوي: قام احد الاسرى فقال لمعن:
الاسير بانكسار: ايها الامير اطال الله بقاءك، اننا قبل ساعة كنا اسراك، اما الان فقد اصبحنا ضيوفك.
معن: "بشيء من الخشونة والتعجب": وكيف؟ كيف اصبحتم ضيوفنا يا هذا؟
الاسير: "بتلعثم" اجل ايها الامير، فقد تفضلت علينا ولطفت بنا، واكرمتنا باطعامنا من زادك الكريم، فاصبحنا ضيوفك، نعم ضيوفك ايها الامير، فانظر كيف تصنع بضيوفك؟
الراوي: واثرت هذه العبارات ايضاً في قلب معن ونفسه، فلم يمتلك جوارحه حتى اضطرب وخجل كيف يقتل ضيوفه، فما صبر حتى صاح باسراه:
معن: ايها الاسرى لقد عفوت عنكم.
الراوي: وظن معن بن زائدة ان الامر بلغ خاتمته وانتهى، الا انه ما كاد يلتفت ليذهب حتى ناداه اسير:
الاسير: والله ـ ايها الامير ـ ان عفوك عنا، اشرف من يوم ظفرك بنا.
الراوي: فسر معن بن زائدة سروراً كبيراً بهذه العبارة، حتى انتشى، وامر لكل من الاسرى بكسوة ومال فلامه احد اصحابه فقال له معن مجيباً متسائلاً..
معن: ماذا اصنع اذن وقد اصبحوا يوفي.