الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والسلام على الحبيب المصطفى أشرف المرسلين، وعلى آله الابرار الميامين.
الشيب في الاسلام له احترامه، وذو الشيبة له إجلاله وإكرامه. فأميرالمؤنين عليّ (عليه السلام) يقول في غرر كلماته وحكمه: «وقار الشيب نور وزينة»، ويقول كذلك: «وقار الشيب أحب إلي من نضارة الشباب».
والشيبة في الاسلام تحطى بمكانة خاصة، ولها حقوق على الناس، فرسول الله صلى الله عليه وآله يقول: «من إجلال الله، إجلال ذي الشيبة المسلم»، وروي عنه صلى الله عليه وآله في بعض المصادر العامية قوله: «إن من اجلالي توقير الشيخ من أمتي».
هذا من أخلاقيات الاسلام وآدابه في شأن الشيبة إذا كانت شابت على دين اللع تبارك وتعالى، فكيف بالشيبة إذا سمت الى مراقي الايمان والتقوى، وتوسّمت بالتسليم والطاعة لله ورسوله ولأئمة المسلمين الهداة من آل البيت صلوات الله عليهم؟! وكيف اذا تقدمت الشيبة الكريمة في سوح الجهاد الغيور المدافع عن حرم الدين وحُرم البيت النبوي الشريف؟ وكيف اذا تعطرت تلك الشيبة الوقورة المجاهدة بدماء الشهادة الزكية؟!
إن مثل هذه الشيبة كان لها حضورها المشرف على ارض كربلاء، في يوم عاشوراء وكانت ملتحقة بقافلة الشهداء السعداء، كان منهم: الشيخ الشهيد أنس بن الحارث الكاهلي، الاسديّ.
كان انس بن الحارث بن بنيه الاسدي من عداد الكوفيين؛ اذ منازل كاهل ـ وهم من عدنان عرب الشمال ـ في الكوفة. وانس هذا (رضوان الله عليه) كان شيخاً كبير السن، ذا منزلة اجتماعية رفيعة، بحكم كونه صحابياً رأى النبي (صلى الله عليه وآله) وسمع حديثه، وكان ما حدث عن رسول الله قد رواه عنه جم غفير من العامة والخاصة، فمما ورد عن انس بن الحارث قوله:
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول ـ والحسين في حجره ـ: «ان ابني هذا يقتل بارض العراق، الا فمن شهده فلينصره».
وكان انس بن الحارث الكاهلي من صدق ما سمعه ورواه، فشهد الامام الحسين عليه السلام في العراق فنصره. وقبل ذلك شهد بدراً وحنينا فنصر فيهما رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاذا مد الله تعالى في عمره واصبح شيخاً مسناً وفق لنصرة آل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
سمع انس بن الحارث الكاهلي بمقدم الامام الحسين الى كربلاء، فخرج من الكوفة حتى التقى به ليلا، فادركته السعادة بانضمامه الى الركب الحسيني الذي كان مستعداً للقتال، وللنزال، بل للشهادة في درجاتها الرفيعة بين يدي سيد شباب اهل الجنة.
وكذا انس بن الحارث كان متاهبا لذلك، فاصطف على كبر سنه مع اخوانه في الايمان والولاء و الجهاد، اصحاب الامام الحسين (عليه السلام)، ينتظر الفرصة للاذن والدخول الى ساحة المنازلة، حتى حان اوان ذلك.
فتقدم انس يستأذن امام الحق، وحجة الله على الخلق، وهو يشد وسطه بعمامته؛ لكبر سنه وضعف ظهره (رضوان الله عليه)، وكان دعا بعصابة فعصب بها حاجبيه اللذان قد تدلاً على عينيه بعد ان طال به العمر المبارك، فرفع بالعصابة حاجبيه عن عينيه يزيحهما عن نظره، ليلقى بعد ذلك اخر نظراته الموالية الى وجه ابي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه)، فلما راه الامام بهذه الهيئة وقد تقدم يستأذنه للفتال والشهادة، بكى (عليه السلام)، ودعا له: شكر الله لك يا شيخ.
وبرز الشيخ المسن انس بن الحارث الكاهلي الاسدي (رضوان الله عليه) في طف كربلاء، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت كاهلها ودودان
والخندفيون وقيس عيلان
بان قومي افة الاقران
لدى الوغى .. وسادت الفرسان
مباشر والموت بطعن ان
لسنا نرى العجز عن الطعان
آل علي شيعة الرحمان
وآل حرب شيعة الشيطان
ثم حمل انس بن الحارث الاسدي رحمه الله على القوم يقاتلهم منحني الظهر يجهد في ضربهم، حتى قتل منهم ـ على كبر سنه اربعة عشر رجلا من عسكر عمر بن سعد، وقيل: ثمانية عشر رجلاً، ومازال يخوض فيهم حتى حاصروه وقد اجهده القتال فقتلوه، ليستقبل ارض الشهادة بكربلاء مضرجاً بدمه الذي صبغ شيبته الكريمة خضابا يفتخر به الموالون المضحون.
وتنطوي عقود السنين، فياتي شاعر يقول في الامام الحسين واصحابه، ومنهم انس بن الحارث الكاهلي الاسدي:
بابيابي الضيم حامي حوزة
الاسلام والاسلام يطلب حامية
في عصية كرهوا الحياة بذلة
واستبدلوا عنها الحياة الباقية
بابي حماة الدين اساد الشرى
في الحرب.. عن حرم النبي محامية
خاضواغمارالموت دون امامهم
وظبى الصوارم بالمنية هامية
فقضوا على حر الظما بيد العدى
والماء حولهم بحور طامية
وفي حبيب بن مظاهر الاسدي، وانس بن الحارث الاسدي، يقول الشاعر راثياً:
سوى عصبة فيهم "حبيب" معفر قضى نحبه، و"الكاهلي" مرمل وفوق هذا وذاك سلام المولى الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشربف، اذ خص هذا الشهيد بالذكر الطيب في زيارته المباركة لشهداء الطف بكربلاء، فكان ان قال: السلام على انس بن كاهل الاسدي.