يا أمير المؤمنين، يا امير المؤمنين لقد أصبح الرجل حديث الناس. لاهم لهم إلا قال أبن الرضا وفعل الحسن بن علي! هه هه لاأدري كيف تأمنه وهو على ما ترى من ميل الناس اليه؟ ألا تخشى من وثوبه عليك؟
بلع الرجل ريقه وأردف قائلاً: لاأخفيك ياسيدي أنني ربما علمت من إخواننا وذوي قرابتنا تخوفهم من نتائج هذه السياسة. إنهم يقولون إننا وضعنا ثقتنا في المعتمد وقلنا إنه سيلزم نهج أبيه إزاء أهل هذا البيت إلا أنه خيب آمالنا!
تكدرت ملامح الخليفة وقال بنفاد صبر: يابني العباس، يا اخوتي، يا أهلي قولوا ماذا أفعل؟ ألم أحمل الرجل الى السجن؟ ألم أوصي علياً بن جرير بالتضييق عليه؟ هه هه ولكن ماذا أفعل؟ جاءني إبن جرير يوماً وقال: يا امير المؤمنين إنك أنزلت إبن الرضا في سجن، أرصت عليه ووضعت عليه الرقباء فلم أسمع منه إلا الخير! وما رأيته نهاراً إلا صائماً ولا ليلاً إلا قائماً! وأني اخشى يا أمير المؤمنين أن ينظر بعض رجالك وأنصارك الى صلاحه فيلزموه واخشى إن طال حبسه أن يقول فيك الناس ما يقولون!!
وهكذا رأيتني مضطراً لأن أأمر بإطلاق سراحه!
إسمع مني يا أمير المؤمنين إن سلطانك أعزه الله أصبح مرهوباً وليس هنالك اليوم من يجرأ عليك بكلام. إني أرى أن تسلم الرجل لصالح بن وصيف فهو احرى بتدبر أمره.
لامانع لدي، أبلغ عني إبن وصيف أنني أأمره بحمل الحسن بن علي الى السجن وتوفير أشد رجاله به!
إبتسم الرجل إبتسامة الرضا وفاه ببعض كلمات تعين الخليفة من آفة الأبدان وآفات السلطان وتدعو له بالسلامة على كل حال وشأن ثم إنحنى وإنسل خارجاً.
توالت الصرخات القوية مزيجاً من الألم والرعب ورددت في السجن في جوف الظلام الحالك صداها المفزع، وعلى جانبي ممر طويل فغرت الزنزانات أفواهها وراحت تلك الصرخات الممقوتة مقرونة بأصوات السياط وهي تمزق الأجساد البشرية كوحوش كاسرة إستبد بها الجوع. ومع تزايد وقع أقدام الحرس جيئة وذهاباً يتفاقم الاحساس بمشاعر مقتضبة لايخال لحظة أن الجيوش المغولية الكاسحة تغول على كل شيء فتدمره.
ومن بعيد ومن نهاية الممر الطويل ما فتأت تسمع ضحكات هستيرية، ضحكات وحشية وقحة تهزأ بالصراخ وتسخر بآلام الناس وعذاباتهم. إقترب مصدر الصوت أكثر وأكثر وتحول الضحك المفتعل الى شبه خوار متقطع، كان هناك رجلان من رجال الحرس يتقدمان في الممر الطويل وبين لحظة واخرى كانا يتوقفان أمام أحدى الزنزانات، تقدم أحدهما مشيراً الى احد السجناء وقال: ههه ههه اليك هذا ثور ههه ههه ثور من غير قرون!!
لا لا لا إنك تظلمه وهل رأيت ثوراً بهذه اللحية الجيدة التشذيذ؟ اذن نقول تيس معز! كلا كلا ولا هذا.
ولكن ماهو؟؟
وكيف يخفى عليك؟ أنظر أنظر، تماماً إنه قرد! قرد قد اعاره الشيطان لحيته!!
إنفجر الأول ضاحكاً فيما واصل الثاني كلامه بنحو آخر: كفى كفى هذا لايجوز أبداً. اهاب أن أحداً تعثر به الحظ فهل لك أن تنكل به الى هذا الحد؟ الرجل كاد أن يكون في يوم ما خليفة ولكن رجال أمير المؤمنين لم يخلوه، حسبنا ما يجد بيننا من حفاوة ولعله يعدنا من أفراد رعيته.
ياعلقمة وأنت ياسليم، الأمير يدعوكما اليه!
ها ماذا؟ نادى؟ الأمير ماذا يريد ياترى؟؟
دعنا نذهب وإلا عده الأمير تهاوناً في أمره!
هه هه وعند ذاك فلاعجب أن ينزلنا مقصورة مريحة في هذا القصر الكبير!!
إنني ما بعثت وراءكما إلا لأمر هام داهمنا!
إننا طوع إرادتك يا أمير، سمعاً وطاعة يامولاي!
إنني أقدر صدق خدمتكما وإخلاصكما، وإنني ما إصطفيتكما وإلا وأنا عالم بذلك!
وواصل صالح بن وصيف كلامه دون أن يتيح لصاحبيه فرصة رد: إن الخليفة بعث اليّ برسول آنفاً يحبرني فيه بلزوم حبس أحد أعداءه ويؤكد بوجوب تسليمه خيرة رجالي، وقد رأيت أن أكلفكما هذه المهمة.
نحن طوع بنانك ياأمير!!
سمعاً وطاعة ياسيدي!!
أحسنتما، إني باعث بكتيبة من الفرسان الى بيت الرجل فإذا حضر عليكما به، ضيقا عليه، أنزلاه أشد الطوامير ظلمة وضيقة وأسمعاه كل قبيح ! أوعيتما ما أقول؟
أجل ياأمير ولن نطعمه إلا الجشب من الطعام والأجاج من الماء!
أوتحسب أنه يلقي بالاً لذلك؟
ولم لا ياسيدي؟
إنكما لاتعرفاه إنه ... دعكما الآن من ذلك وإهتما بما أوصيكما به !
سمعاً وطاعة ياأمير!
سمعاً وطاعة ياسيدي!
هناك أمر بالغ الأهمية، اذا بلغني أنكما تماهلتما به او صدر عنكما أي تقصير بشأنه فسوف يكون حسابكما شديداً عندي.
إننا عند حسن ظن مولاي فليأمر الأمير بما يشاء، إننا رهن إشارته!
ينبغي أن تعرفا أن هذا الرجل يشكل خطراً على الخليفة ولايؤمن أن يكون له أتباع او أنصار لذلك يجب أن تكونا حذرين من أن يصل اليه أحد. لاأراكما تغفلان عن مراقبته ساعة كما لاأذن لكم بإيكال أمره الى احد غيركما!
سمعاً وطاعة ياسيدي!
سمعاً وطاعة ياأمير!
ههه خذ هذا لك ياعلقمة! وهذا لك ياسليم!!
لك الفضل يامولاي
شكراً ياأمير!
تستطيعا الآن الانصراف!!
ها كيف وجدته؟
إنه يقرأ القرآن!
هه هه يصلي، يقرأ القرآن! ألا يفرغ هذا الرجل من عبادته؟
لاأدري!
اذا كان هذا ديدنه فكيف لنا أن نصدع بأمر الأمير ومتى؟؟
لنلعن هذا الحظ البائس الذي ساق لنا هذه المشكلة!
الحق ياحنظلة أني أشعر، لاأدري كأني أضطرب، أضطرب كلما دخلت عليه!!
ههه وهل حسبت أنني أحسن حظاً؟
وأنت كذلك؟
ياصاحبي أحس برجلي وقد خارتا، خشيت أن يخونانني فلا يقويان على حملي!
آه عجباً كأنك تصف عين ما حصل لي!
لاأدري لاأدري ما أقول!!
إن عينيه تشعان بوهج عجيب، شعاع لايقاوم! حزمة من وميض تنفذ الى القلب فيضطرب! وتصافح العيون فتختلج! بل لاأقول إني وجدت جسمي يرتجف كما لو أنه صعق!
ها أنني رأيت أميرنا مرتبكاً متخاذلاً كما لو أنه صعق هو الآخر ايضاً!
أحقاً تقول؟
أجل والله! وأزيدك أنني سمعته يحدث الرجل فيقول مخاطباً إياه في تواضع يابن رسول الله!!
ها وهل هو حقاً من احفاد رسول الله صلى الله عليه وآله؟
لاأدري! غير أني رأيت وأنا في طريقي الى هنا حشداً من الناس وهم يستمعون الى من يخبرهم بأن الشرطة إقتادت الى السجن ابن رسول الله!! إبن الرضا، الحسن بن علي!!
إبن الرضا؟ لقد سمعت به كثيراً وأنه لجدير بأن يكون من هذه الشجرة الطاهرة! ولكأني ما سمعت أحداً إلا ذكره بالخير والفضل.
اذن ها نحن أصبحنا حرباً لرسول الله، أعاذنا الله من ذلك!
وكيف يعيذنا ياصاحبي؟
الحق أني كثيراً ما فكرت مع نفسي وقلت تعساً لي، لم أجد لي عملاً آخر أطعم منه أسرتي إلا هذا العمل! لماذا إخترت سبيل إيذاء الناس وإيلامهم؟ لماذا أمضغ هذا الرغيف المعجون بدماء الآخرين ودموعهم؟ لماذا اتنفس دائماً هذا الهواء المحتقن المشحون بالزفرات والآهات؟ لماذا لماذا؟ لماذا لاأستنشق كباقي الناس الهواء الطلق الممزوج بعبير الحرية؟ لماذا كتبت على نفسي العيش بين جدران أربع سجيناً مع السجناء أصبح وأمسي وليس لي نصيب من الحياة، من التمتع بالشمس، من النظر الى الحدائق، الى الحقول، من النظر الى الدنيا العريضة إلا ما للمسافر او الضيف الذي يتأمل الأشياء بعينيه ولايقرب منها؟
أسكت يارجل، إنك لتدمي قلبي!
ولماذا أسكت؟ لا لا أسكت، اذا كنت حرمت نصيبي من الحياة الكريمة، اذا كنت أضعت شطراً كبيراً من سني حياتي سدى، اذا كان عمري مرتعاً للشيطان فلماذا تريدني أن اهدر الباقي من هذه السنين؟ لماذا تريديني أن أهدر هذا الباقي من الصبابة من العمر في اللاشيء؟ لماذا؟ لماذا تريد حرماني؟ لماذا؟ لماذا ياإلهي؟؟ اللهم إني أتوب اليك، اللهم أني أتوب اليك.
كان الرجل يتحدث بحرقة ولوعة وصاحبه يصغي اليه بكل جوارحه ودموعه تنسكب بغزارة حتى اذا ما سكت قام اليه وإحتضنه وإنخرطا في نوبة بكاء عنيفة!!
يقولون إن إبن الرضا يعيش في السجن وكأنه يعيش في بيته، صحيح ما يقولون يابن وصيف؟
لمح السماء بطرفه وقد حجبت الشمس ظلة سوداء وقال: إنني أحمد لك حرصك على سلطان أمير المؤمنين وأحفظ لك منزلتك وقرابتك منه ولكني أسئلك يا أبا عبد الله أريئتني مقصراً في أمر الخليفة؟
حاشاك ياصالح حاشاك ولكني أعجب من أمر الحسن بن علي في سجنك.
ما أصنع به؟ وقد وكلت به رجلين هما شر من قدرت عليه!! لقد صار من العبادة والصلاة الى امر عظيم.
ياغلام ياغلام!!
أجل أجل ياسيدي !
إذهب ويحك ونادي الرجلين اللذين أوكلتهما بإبن الرضا.
ويحكما، ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟
مانقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كله، لايتكلم ولايتشاغل بغير العبادة. فإذا نظر الينا إرتعدت فرائصنا وداخلنا ما لانسبقه من انفسنا!
صرف إبن وصيف الرجلين وكأنما خشي من نفسه أن يقع تحت تأثير حديثهما. أما ضيفه فبهت ثم لملم ثيابه وخرج يجر أذيال الخزي.
وإنزاحت الظلة السوداء عن الشمس وتلئلئت السماء وأشرقت الأرض وزهت كأنما بعثت الحياة في كل جزء من اجزاءها.