إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات في كلّ مكان !
تحيّة الإيمان والإسلام نبعثها لحضراتكم أينما كنتم ، ونحن يسعدنا أن نعاود اللقاء بكم لنصطحبكم معنا في جولة جديدة من جولاتنا الأسبوعيّة بين رحاب نهج البلاغة عبر برنامجكم علي خطي النهج ، راجين أن تقضوا معنا أوقاتاً تجمع بين الفائدة والمتعة في محطّتنا لهذا الأسبوع ...
مستمعينا الأعزّة !
مازلنا متواصلين معكم عند أسلوب الإيجاز الذي يطالعنا في جميع أرجاء نهج البلاغة وخاصة في الباب الأخير منه حيث تستوقفنا كلماته وحكمه القصار عليه السلام في روعة بلاغتها وفي سموّها علي حدود الزمان والمكان ، ونبدأ استعراضنا لمظاهر الإيجاز بقوله عليه السلام :
" تَذِلُّ الْأُمُورُ لِلْمَقَادِيرِ، حَتَّى يَكُونَ الْحَتْفُ في التَّدْبِيرِ .
فهاهنا يحذر الإمام من المخبّآت والمفاجآت التي لا تراها العيون، ولا تومىء إليها القرائن من قريب وبعيد، يحذّر كل إنسان من ذلك كي يحتاط ويحترس.. على ان الوقاية من الهلاك قد تكون هي السبب الموجب له، كالطبيب يصف نوعاً من الدواء لمريضه بقصد الشفاء، فيقضي عليه، ويتحصن الجيش منعدوه ويفر من الجهاد طلباً للسلامة فيقع فيما هو أدهى وأمرّ.
ومن أقواله الأخري عليه السلام في الموت وحتميّته حتي وإن ظنّ الإنسان نفسه أنه بمنجاة منه قوله مستخدماً كلمة " الأمل " التي تعني متاع الدنيا وأمانيها بكلّ أنواعها :
" مَنْ جَرَى فِي عِنَانِ أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجَلِهِ .
فكل الأعمال بالآمال، ولو لا الأمل لبطل العمل. والمذموم هو أن نطلق العنان لنملك الدنيا وحطامها، وأن نزاحم الآخرين، معلنين الحرب من أجلها غير مكترثين بواجب وحرام، ولا بدين وشريعة. ومن كان هذا شأنه نسي الموت و ما بعده ، واختطفه على حين غرة ، ليذهب به الى خالقه بلا زاد واستعداد.
مستمعينا الأفاضل !
يمثّل الإيجاز القمّة في البلاغة ، والميدان الذي يتسابق فيه البلغاء ، ومتي ما كان البليغ قادراً علي الإتيان بالكلام الموجز المتضمّن للغزير من المعاني ، كان بحقّ من أفذاذ البلاغة وأمرائها ، ولقد تجلّت هذه الصفات كأفضل ما يكون التجلّي في شخصيّة أمير المؤمنين سلام الله عليه ، حول هذه الظاهرة - ظاهرة ميل الإمام عليه السلام - إلي الإيجاز حتي في خطبه ورسائله سألنا خبيرنا علي الهاتف السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة ، فأدلي لنا بحديث نسترعي انتباهكم إليه :
الكشميري: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. امامنا امير المؤمنين عاش فترات حساسة ومضطربة لذلك حياة الامام غنية بالمعطيات المتنوعة في أكثر من مجال وتحرك الامام امير المؤمنين سلام الله عليه منفتحاً على آفاق عالية في الحياة ولما كانت مسئلة الأدب والشعر والمقال والكلمة هي التي تغطي حضارة العرب اذا ما رجعنا الى تاريخ المنطقة الثقافي نرى المنطقة كانت غنية بهذا المجال. الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أعطى جانباً إبداعياً لامثيل له في مسئلة ما نسميه اليوم بالاختصار او الإيجاز ولهذا بما أن الامام عاش مع القرآن جنباً الى جنب من حين نزول اول آية الى آخر آية ولاحظ الامام امير المؤمنين وهو ترجمان القرآن، لاحظ أن القرآن كيف يوجز في عرض بعض القضايا التي ربما دامت واحداً وتسعين عاماً مثلاً قصة يوسف النبي، كيف القرآن يوجزها بمئة واحد عشر آية. الامام على غرار ما إستلهم من معاني القرآن وقصص القرآن الكريم وطريقة عرض القصص بإختصار وبإيجاز فنلاحظ أن الامام صلوات الله عليه ساير ذلك المنهج وأعطى به إبداعاً فريداً من نوعه. مثلاً عندما نقرأ في القرآن "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" الامام سلام الله عليه يخاطب ولده الحسن وهو يعطي نفس هذه الصورة ولكن في اطار أدبي جميل " وإعلم يابني إن الذي في يدك من مال الدنيا قد كان له أهل قبلك وهو صائر الى أهل من بعدك".
المحاورة: نتقدم بالشكر الجزيل لسماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة.
أعزّتنا المستمعين !
ومن روائع إيجازه عليه السلام قولُه في الصدقة والحثّ عليها ، وضرورة أن يأخذ العباد بنظر الاعتبار الآخرة في أعمالهم :
" اَلصَّدَقَةُ دَوَاءٌ مُنْجِحٌ وَ أَعْمَالُ اَلْعِبَادِ فِي عَاجِلِهِمْ نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ فِي آجِلِهِمْ
والمراد بالصدقة هنا كل معونة تسد حاجة من حاجات الحياة خاصة كانت
كإغاثة الملهوف، أم عامة كبناء ميتم يأوي المشردين، أم مصنعا ينتج الغذاء والكساء والدواء للمحتاجين. وأي دواء أكثر نفعا من خدمة الإنسان وسد حاجاته؟
وهذه الصدقة لا تجيب دعوة المضطر وكفى، بل هي أيضاً دواء وخلاص من عذاب الحريق في يوم الحساب والجزاء.
ويأتي قريباً من ذلك قول الإمام (ع) "مِن كفّارة الذنوب العظام إغاثة الملهوف، التنفيس عن المكروب.
وفي موضع آخر يقول عليه السلام لافتاً الأنظار إلي الآية الكبري التي خلقها الله تعالي ألا وهي الإنسان بعجائب خلقه ، وبديع صنعه ، حيث أشار في هذا القول إلي حواس الإنسان بألفاظ أخري دلّت علي الإيجاز :
"اعْجَبُوا لِهذَا الاْنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْم، وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْم، وَيَسْمَعُ بِعَظْم،وَيَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْم
فقول أمير المؤمنين عليه السلام (اعْجَبُوا... ) هو طلب التعجّب ،من الاعجاز في الخلق المسبوق بالتفكّر ، و من نظر في تشريح بدن الإنسان حضرته شواهد من الحكم الإلهية يحار فيها لبّه و يدهش فيها عقله ؛ فقد نبّه أمير المؤمنين عليه السّلام على لطف، وإعجاز خلق الإنسان ببعض أسرار حكم اللّه في الإنسان ، وغايته عليه السلام من ذلك: الاستدلال على حكمة الصانع وابداعه ، فذكر أربعة من محالّ النظر والاعتبار ، وهي آلة البصر و الكلام والسمع والتنفّس . وهي من أهم الحواس الخمس.
قال ابن أبي الحديد :((هذا كلام محمول بعضه على ظاهره ، لما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامّة بما يفهمونه ، والعدول عمّا لا تقبله عقولهم ، ولا تفي به)) .
فيكون الكلام بليغاً لمطابقته مقتضى الحال، واحتوى كلامه عليه السلام على فن من فنون علم المعاني وهو الإيجاز فضلاً عن السجع المتوازي، وذلك في قوله: " يَنْظُرُ بِشَحْم، وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْم، وَيَسْمَعُ بِعَظْم، وَيَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْم.
المحاور: حياكم الله أحبتنا الأفاضل نختتم حلقتنا لهذا الأسبوع من برنامج علي خطي النهج ببث الحديث التالي الذي أدلى به خبير البرنامج السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة مشكوراً حول الكلمات والألفاظ التي استخدمها امير المؤمنين عليه السلام في قصار كلماته في سبيل الإيجاز والكناية للتعبير عن معاني ومفاهيم لم توضع لها تلك الكلمات والألفاظ أساساً ولكنه استعملها من باب عدم التصريح المباشر بالمعاني والدلالات فجاءت أقواله أكثر إيجازاً وبلاغة وأعمق تأثيراً في نفوس المخاطبين، فلنستمع معاً:
الكشميري: الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه تفرد في كثير من الأمور والتاريخ يسجل له ذلك رغم أن أعداءه حاولوا تضييع هذا المجال وهذا المضمون. الامام صلوات الله وسلامه عليه مر بحياة شاهد فيها تنوعاً غريباً من الفتن وإستشعر معاناة الأمة في ذلك التاريخ الذي عاشه وتحرك من خلاله بأداء نوعي ومهني غريب فحينما نمر بخطب الامام في نهج البلاغة في رسائله، في كلماته القصار نرى الامام سلام الله عليه كيف يتحرك وكيف يعكس المعنى الواسع الكبير في جملة قصيرة قد لاتفوق الأربع كلمات او الثلاث كلمات، مثلاً تعج هناك فتنة، الامام يختصر كل ذلك بجملة واحدة مخاطباً الانسان وطبعاً هو يخاطب ابنه الحسن عليه السلام ولكن يخاطب كل البشر الى هذه الساعة والى يوم تقوم القيامة. "كن في الفتنة كإبن اللبون" ثم يعطي الامام المضمون، ماهو ابن اللبون؟ اللبون هو ولد الناقة الذكر الذي لايقوى ظهره على أن يركبه أحد وليس له ضرع يحلب منه. الامام يريد من الانسان أن يتحرك بشكل لايكون جسراً يصل غيره من خلاله الى أطماعه فيكون هو الخاسر الأول والأخير "يابني كن في الفتنة كإبن اللبون لاظهر فيركب ولاضرع فيحلب".
المحاور: حياكم الله مستمعينا الأفاضل وموفور الشكر لسماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة.
في ختام حلقتنا لهذا الأسبوع من برنامجكم علي خطي النهج لكم منّا خالص الشكر والتقدير علي طيب متابعتكم ، ولخبير البرنامج كلّ الامتنان ، وعلي أمل أن نجدّد اللقاء بكم عند أسلوب بلاغي آخر من أساليب نهج البلاغة ، نترككم في رعاية الخالق ، وإلي اللقاء .